موريتانيا: الحزب الحاكم ينافس منشقين عنه في انتخابات تجري على خلفية متفجرة
نواكشوط – من الشيخ بكاي- وسط أجواء من التوتر السياسي الشديد يخوض “الحزب الجمهوري الديموقراطي ” الحاكم في موريتانيا هذه الأيام حملة انتخابات بلدية تدعو المعارضة إلى مقاطعتها ويواجه فيها حزب السلطة أنصاره من غاضبين أعضاء فيه رفضوا اختياره لمرشحيه فنزلوا في قوائم مستقلة، ومن تشكيلات حزبية صغيرة دائرة في فلكه.
وتجري الانتخابات المقررة في الـ 28 كانون الثاني(يناير) الجاري على خلفية أزمة سياسية عميقة تتمثل في رفض متبادل بين السلطة والمعارضة أوصل الطرفين إلى مواجهة لا يبدو أن أيا منهما على استعداد للتراجع عنها.
وترفض جبهة أحزاب المعارضة التى يقودها احمد ولد داداه المشاركة في أي انتخابات ما لم تستجب السلطات لجملة من المطالب يأتي في مقدمها تقديم ضمانات ملموسة بأن الإدارة لن تزورها لصالح حزب الرئيس معاوية ولد سيد احمد الطايع.
وتقول المعارضة إنه في غياب حالة مدنية مضبوطة ولجنة إشراف مستقلة لا تعني المشاركة سوى توفير الغطاء الشرعي لأعمال التزوير.
وشاركت المعارضة في أول انتخابات رئاسية تجري في البلاد على أساس التعددية عام 1992 ففاز الرئيس الطايع بنسبة 62 في المائة لكنها اعتبرت هذه النسبة حاصل عمليات تزوير شاركت فيها الإدارة والقوات المسلحة التى ينتمي العقيد ولد الطايع إليها.
ومنذ هذا التاريخ تطرح الأحزاب المعادية للنظام عريضة مطالب اعتبرت استجابة السلطات لها شرطا للمشاركة؛ غير أن سياسة “المقعد الخالي” جرت على المعارضة اتهامات بالتطرف وانتقادات في الداخل والخارج (فرنسا خصوصا) ما جعلها تشارك في الانتخابات الإشتراعية التى أجريت العام 1996 والتى خرجت منها “بخفي حنين” بسبب ما قالت إنه التزوير واستخدام الجيش الذي لا تخضع مكاتبه الانتخابية لأي رقابة. هذا في حين ترجع السلطات خلو البرلمان من ممثلين للمعارضة إلى عجز الأخيرة وطرحها شعارات متطرفة لا تجذب أحدا.
وتقول جبهة أحزاب المعارضة إن قرار المشاركة ذالك كان لإسكات الداعين إلى نبذ أسلوب المقاطعة من خلال جعلهم يعيشون فصول التزوير.
ويخوض الانتخابات البلدية الحالية “الحزب الجمهوري الديموقراطي” الحاكم وهو “كشكول” كبير يضم القبائل ممثلة في زعمائها التقليديين الذين هم برغم التخلخل الذي تعرفه البنية القبلية ما زالوا إلى درجة كبيرة يحظون بنفوذ واسع.
وإضافة إلى القوى القبلية”الظلامية” على لغة البعض هناك بعض الماركسيين(السابقين) وبعض (الإشتراكيين) القوميين ناصريين وبعثيين وبعض الإسلاميين. وهناك عسكر، ومتشبعون بالثقافة والقيم الغربية.
وسيكون المنافسون الحقيقيون لـ”حزب الدولة” (الاسم الذي يطلقه عليه البسطاء والمتهكمون) هم “المنشقون” من أعضائه الذين رفضوا ترشيح الحزب لخصومهم المحليين فرشحوا أنفسهم ضد المرشحين الرسميين.
ويستند “المستقلون” إلى الخلفية القبلية نفسها التى تمد المرشحين الرسميين بالقوة.
أما “الشركاء” الآخرون في العملية الانتخابية الجارية فهم عبارة عن أعضاء التشكيلات الحزبية الصغيرة التي تشكل مع الحزب الحاكم ما يعرف محليا بأحزاب”الغالبية الرئاسية”.
وهناك “شركاء” من خارج “الغالبية الرئاسية” هم مرشحو “اتحاد القوى الديموقراطية” – جناح محمد ولد مولود، وهي جماعة ماركسية (سابقا) منشقة عن تجمع المعارضة الرئيسي الذي يقوده احمد ولد داداه، ويعتقد أن دور هذه الجماعة سيقتصر على تنظيم حملة انتخابية جيدة تنشر من خلالها أفكارها، فهي تضم سياسيين لهم مكانتهم التاريخية وخبرتهم لكنهم من دون قاعدة شعبية.
وهناك تشكيلة حزبية صغيرة أخرى هي ” الجبهة الشعبية” التي يقودها الشبيه ماء العينين الوزير السابق في الحكومة الحالية وتشترط هذه التشكيلة المشاركة بإفراج السلطات عن زعيم المعارضة وهذا ما لم يحدث حتى كتابة هذه السطور.
وفي غياب منافسين حقيقيين يتوقع أن توجه السلطات “ماكينتها الانتخابية” إلى “طحن” المرشحين المستقلين المنشقين عن الحزب الحاكم لفرض نوع من الانضباط الحزبي الذي تفتقر إليه الأحزاب السياسية الموريتانية كلها.
وكان الحزب الحاكم حذر أعضاءه من أنه سيطرد كل من يخرج على قرارات الحزب ويرشح نفسه في وجه من تختاره القيادة.
وفي محاولة لتجاوز الخصومات المحلية أوفدت قيادة الحزب بعثات إلى داخل البلاد لتتفق مع السكان على مرشحيهم غير أن هذه المساعي فشلت في العديد من المناطق ، ما أثار الجماعات التي لم يحالفها الحظ ، وتتهم قيادة الحزب الحاكم بفرض أشخاص معينين على عشائرهم أو قراهم.
ويذكر أن مشكل عدم الانضباط الحزبي من أكثر العراقيل انتشارا أمام تطور التجربة الحزبية الموريتانية. وفي صفوف المعارضة هي الأخرى انقسامات وانسحابات كما هي حال حزب السلطة.
الانتخابات البلدية الحالية تجري في ظرف خاص يتسم بالتوتر السياسي والإستياء العام إزاء بعض السياسات التي تنتهجها السلطات وبخاصة في المجال الإقتصادي، والديموقراطية وحقوق الإنسان.
وتمر موريتانيا الآن بأزمة سياسية تشبه في بعض ملامحها تلك التي أعقبت انتخابات العام 1992 الرئاسية، فعلى مدى الشهور الثلاثة الأخيرة من العام الفائت صعدت جبهة أحزاب المعارضة المواجهة السياسية مع حكومة الرئيس ولد الطايع واتسم خطابها بالحدة إلى درجة الإعلان في شكل صريح أن كل الطرق السلمية استنفدت ، ولم يبق أمامها إلا إزالة النظام الحاكم بالقوة.
وبرغم أنه جرت العادة على إبقاء الجيش من المحرمات التي يمنع الحديث عنها فإن المعارضة دعت القوات المسلحة – ضمنيا- إلى المساهمة في التغيير أو عدم الوقوف في وجهها حينما ذكرت الجيش في خطاب أمام نحو عشرة آلاف شخص في العاصمة نواكشوط أنه “من الشعب والشعب منه(….) وليس دوره حماية فئات معينة”.
ونظمت جبهة الأحزاب المعارضة بقيادة ولد داداه حملة شرسة ضد السلطات اتخذت من موضوعات تمس عيش المواطن أو مشاعره في شكل مباشر هي الحالة الاقتصادية السيئة (وإن كانت هناك انجازات مهمة على مستوى التوازنات الكبرى) والإختلاس والفساد، وموضوع العلاقات مع إسرائيل.
ولاقت الحملة تجاوبا”علنيا” في الأوساط غير المرتبطة بولاء للنظام أو بمصالح معينة، و”مكتوما” في معظم الأوساط الشعبية الموالية أو المرتبطة بمجموعات أو أشخاص موالين.
وكان موضوع المزاعم القائلة بأن الحكومة الموريتانية وقعت مع إسرائيل على اتفاق يسمح للأخيرة بدفن نفايات نووية وصناعية في صحراء المجابات الكبرى الموريتانية موضوع إجماع لدى الكل.
ورغم أن الحكومة الموريتانية نفت مرارا وفي شكل قاطع، وجود هذا الإتفاق، فإن القلق استمر، ما وفر وقودا للحملة المعادية للتطبيع و”الهرولة” والتي أمدت بدورها مواجهة سياسية عامة تزداد حدة يوما بعد يوم.
وربما كانت السلطات وصلت إلى قناعة بأن ما يجري يعد لأمر أخطر لم تتضح معالمه بعد خصوصا أن الدعوة إلى التغيير من الداخل إقترنت بأخرى من الخارج جاءت على لسان الرئيس السابق المختار ولد داداه المقيم في فرنسا والذي هو الأخ الأكبر لزعيم المعارضة احمد ولد داداه.
ولعل القناعة بوجود مخطط ما هي ما جعل ولد الطايع يأمر باعتقال زعيم المعارضة وأثنين من زملائه هما مساعده محمذن ولد باباه والمحامي البارز محمدن ولد اشدو. وقد نفي هؤلاء إلي بلدة “بومديد” الواقعة في الصحراء على بعد 700 كم من العاصمة نواكشوط.
ويقول رئيس”الرابطة الموريتانية لحقوف الإنسان”(قريبة عادة من الحكومة) غالي ولد عبد الحميد إن ولد داداه يعاني مشاكل في القلب. وقال في رسالة بعث بها إلى وزير الداخلية الموريتاني إن المعتقلين يقيمون في غرفة مساحتها عشرون مترا مربعا، وإنهم محرومون من الزيارات والقراءة والإذاعة ورياضة المشي.
وتواجه الحكومة الموريتانية ضغوطا من الخارج والداخل بسبب اعتقال هؤلاء السياسيين من دون أن توجه إليهم تهمة رسمية، ففي الداخل قليلة هي الأيام التي خلت من مظاهرة أو إعتصام في العاصمة نواكشوط أو في مدن كبيرة أخرى منذ أعتقل احمد ولد داداه في السادس عشر كانون الأول(ديسمبر) الماضي.
وأثارت عمليات القمع التي يتعرض لها المحتجون والذين هم في معظمهم من النساء انتقادات انضافت إلى تلك المتعلقة باعتقال زعماء المعارضة من دون تهمة رسمية، ولا يخفي بعض أنصار النظام التبرم والإحباط من بعض ممارسات أجهزة الأمن التي يرون فيها “تشويشا على التجربة الديموقراطية الجيدة والإنجازات الأخرى التي حققها الرئيس” كما قال أحدهم لـ”الوسط”.
ويرى هذا الشخص وهو مسؤول في الحزب الحاكم طلب عدم ذكر اسمه أن ” اعتقال ولد داداه كان أمرا سلبيا أظهر النظام وكأنه لا يحترم حقوق الإنسان ويكفر بحرية الرأي التي لم توجد قبله”. وقال: “حصل ولد داداه من خلال اعتقاله على ما كان يخطط له وهو جعله زعيما يتحدث عنه الناس هنا وفي الخارج، وهذا أقصى طموحه إذ هو عاجز عن التأثير في الواقع من خلال الانتخابات ولجأ إلى التهديد بالعنف ليثير الانتباه إليه”، على حد قوله.
ومهما يكن فإن اعتقال ولد داداه أثار على السلطات في الداخل الانتقاد، ولا يبدو أنه ردع المعارضة التي زادت في التحدي وأعلنت أن”عهد التغيير بدأ” في أحد بياناتها الكثيرة هذه الأيام، وفي الخارج تواجه السلطات ضغوطا من الهيئات والمنظمات العربية والدولية المهتمة بحقوق الإنسان، ففي العالم العربي كانت عملية الاعتقال وسيلة للتذكير بالعلاقات مع إسرائيل وبموضوع النفايات النووية الإسرائيلية، وذالك عبر منظمات مقرها بيروت والقاهرة.
وتبنت المعتقلين الإتحادية الدولية لحقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية، واتحاد المحامين الدوليين الناطقين بالفرنسية ومنظمات غربية أخرى، ولعل أهم المواقف لدى الموريتانيين هو موقف الحزب الإشتراكي الفرنسي الحاكم الذي انتقد الإعتقالات ووصفها بأنها خرق فاضح لحقوف الإنسان، وقال إن ما يجري في موريتانيا هو”فهم سيئ للديموقراطية”.
وتقوم الفيدرالية الدولية لمنظمات حقوق الإنسان بجهود لدى الحكومة الفرنسية من أجل إقناعها بالضغط على السلطات الموريتانية من أجل الإفراج عن المعتقلين.
مجلة ” الوسط” اللندنية