موريتانيا : محو آثار حرب الخليج … والبعثيين !
مع صدور هذا العدد من “الوسط” يكون الجهاز القضائي الموريتاني تسلم من الشرطة محاضر حوالى مئة من المدنيين البعثيين، فيما يعهد بالعسكريين من انصار البعث الى محققين عسكريين تمهيداً لمحاكمات ينتظرها الشارع نتيجة الجدل الدائر حول اتهامات وجهتها السلطات للعراق بوضع شبكات تجسس على المرافق الاستراتيجية الموريتانية امتدت الى الجيش وقوات الامن.
ومع ان الحكومة الموريتانية بدت غاضبة من خلال امهال السفير العراقي مولود ذبيان 72 ساعة قبل ان يغادر مطروداً الى بلاده مع بدء الاعتقالات في اوساط البعثيين يوم 23 الشهر الماضي وكذلك من خلال اعفاء عدد من الموظفين مباشرة بعد الاعتقال، فان الرأي العام، في غياب معلومات مفصلة عبر الاحداث، اعتبر ان الاعتقالات وطرد السفير العراقي ذات دوافع سياسية لا أمنية. فالرائج هو ان السلطات بادرت الى تصفية البعثيين الذين ينتمي معظمهم الى الحزب الجمهوري الديموقراطي الحاكم، بينما يتوزع الآخرون على حزب “الطليعة” البعثي وأحزاب معارضة اخرى، لهدف واحد هو “إرضاء” الغرب و”الاعتذار العملي” للكويت.
وباستثناء تصريح لوزير الداخلية مع بدء الاعتقالات تحدث فيه عن شبكات تجسس، لم تقدم السلطات معلومات رسمية. إلا ان مصادر مقربة منها سربت معلومات مفادها ان حزب البعث السري السابق اعاد تنظيم نفسه سراً محتفظاً بوجوده العلني في الاحزاب السياسية كواجهة لنشاطه. وطبقاً لهذه المصادر استطاع الحزب تشكيل جناح عسكري داخل الجيش والحرس والشرطة. وذكرت المصادر ان السفير العراقي اشرف على عملية احياء الحزب وضخ اموالاً عراقية لهذا الغرض.
واذا ما تأكدت هذه الانباء من خلال المحاكمة التي يتوقع ان تكون علنية فان هذه هي المرة الرابعة التي يُكتشف فيها تنظيم عسكري بعثي تابع للعراق. فخلال السنوات الـ 15 الأخيرة وجهت السلطات ثلاث ضربات الى البعث الموريتاني بجناحيه، المدني والعسكري. وإذا كانت المحاكمة الأولى التي جرت عام 1982 في عهد الرئيس محمد خونه ولد هيدالة وتم في اعقابها طرد السفير العراقي مجيد الرفيعي وسجن كوادر البعث المدنيين والعسكريين، كانت صورية وفي اجواء سرية، فان آخر واحدة وهي التي اجريت العام 1988 كانت علنية وأثبتت وجود ثلاثة اجنحة للبعث هي “المثنى” وهو تنظيم عسكري تم سجن قيادته وأدى اكتشافه الى طرد 417 عسكرياً من الجيش، و”خالد” وهو جناح سري لم يكن اعضاؤه معروفين بانتمائهم للبعث، و”صلاح الدين” وهو الجناح السياسي الذي يمثل واجهة للبعث ويضم القيادات التاريخية المعروفة ويمارس نشاطه في شكل شبه علني مع انه لم يتم في ذلك التاريخ بعد الترخيص للاحزاب. واثبتت المحاكمة، من خلال تصريحات المتهمين، تورط العراق في تمويل البعث الموريتاني وتأطيره. وان الاستقالات من الوظائف والتعيين كانت تقبل او ترفض في بغداد.
ومع انه لم يعرف حتى الآن مستوى تورط العراق في الأزمة الحالية الا ان المراقبين يعتقدون بأن علاقات نواكشوط وبغداد لن تعود الى وضعها الطبيعي حتى مرور وقت طويل. ولم يفت على متتبعي الوضع السياسي الموريتاني ان السلطات هذه المرة لم توفد مسؤولين الى بغداد لشرح ان “ما يجري مسألة داخلية” كما حدث في مرات سابقة. ويعتقد هؤلاء بأن نظام حكم الرئيس معاوية ولد سيد احمد الطايع يشعر بأن البعثيين يشكلون عرقلة امام الديبلوماسية الموريتانية التي تعمل جاهدة على محو آثار حرب الخليج وسنوات القطيعة مع الغرب ومضاعفات النزاع الموريتاني – السنغالي وانعكاساته على الاوضاع الداخلية.
ومع ان الحكومة الموريتانية دانت احتلال العراق للكويت ورفضت نقل سفارتها، من العاصمة الكويتية الى بغداد فان الصورة التي تركزت في الاذهان عنها هي انها تدور في الفلك العراقي. وخلال الأزمة مع السنغال عام 1989 وحتى 1992 ظلت الصحافة الفرنسية تصف الرئيس الموريتاني بـ “الكولونيل البعثي”.
وفي الواقع وقف العراق الى جانب موريتانيا وقدم لها السلاح والمال والدعم السياسي حينما كانت مهددة خارجياً وداخلياً، وهذا ربما ما يفسر الحرج الكبير الذي وقعت فيه إبان ازمة الخليج، وداخلياً كان البعثيون الموريتانيون من أشد انصار النظام خلال الفترة العسكرية من حكم ولد الطايع وأثناء الانتخابات الرئاسىة والاشتراعية التي اجريت عام 1992 في اجواء غربية وخليجية وإفريقية معادية، كما استماتوا في الدفاع عنه اثناء الحملات الشرسة التي استهدفته خلال العامين الأولين من الفترة الديموقراطية التي اتخذت من مسألة حقوق الانسان في الفترة العسكرية موضوعاً لها وتزعمتها الولايات المتحدة ومنظمات غربية مهتمة. وقال سياسي مؤيد للرئيس الطايع لـ “الوسط” ان المسألة “تدخل في صميم السيادة الموريتانية ولا صلة لها بمواقف الغرب أو غيره من البلد” وأضاف: “نحن في بلد ديموقراطي للكل فيه ان يشكل ما شاء من الاحزاب العلنية المشروعة ويعارض ما شاء من المعارضة وما هو غير مقبول هو الممارسات الظلامية والاكتتاب في اوساط الجيش والتعامل مع الاجنبي”. وأوضح ان “ما كان ممكناً في الفترة الاستثنائية لم يعد مقبولاً بسبب انعدام المبرر”.
ويرى مراقبون محايدون انه سيكون على السلطات ان تقدم ادلة ملموسة على تورط العراق وعودة البعثيين الى النشاط السري والا تضررت صدقيتها لدى رأي عام شكاك عادة في تصرفات اجهزة الأمن ويميل الى اتهامها بالانقضاض “المجاني” انطلاقاً من تجارب سابقة
الحياة
70 تعليقات