الموريتانيون يودعون العام بنعوش احلام واسئلة حائرة
الشيخ بكاي بي بي سي – نواكشوط – (أرشيف) – دخل الموريتانيون العام 2008 قاماتهم طويلة، وأحلامهم عريضة، لكنهم يستقبلون العام الجديد بنعوش أحلام، واسئلة حائرة.
دخلوا العام الراحل خارجين من تجربة انتخابات رئاسية وبرلمانية اعتبروها، واعتبرها غيرهم “تاريخية”. فهي المرة الأولي التي يترك فيها الجيش السلطة طواعية منذ أول انقلاب عسكري في سبعينيات القرن الماضي، ويتم فيها انتخاب رئيس بشكل شفاف.
وكم شعر الموريتانيون بالزهو وهم يستمعون إلي عبارات الثناء علي ضباط جيشهم، وعلي تجربتهم الديمقراطية التي اعتبرها البعض “مثالا ينبغي أن يحذو العالم العربي حذوه” كما ورد في وسائل إعلام عربية كثيرة، وفي بيانات أحزاب، وتصريحات شخصيات عبر العالم
ولم تفلح نذر العام 2008 التي تجسدت في هجمات هنا وهناك نفذها مسلحون سلفيون مع بداية العام في وقف التفاؤل القائم علي أساس “الحسم” الذي تم في موضوع الديمقراطية وحرية الرأي، ووعود، انتخبوا علي أساسها رئيسهم الجديد، بتوزيع الثروة البترولية والسمكية، وعائدات الحديد والنحاس بعدالة، ومحاربة الفساد وصيانة المال العام.
غير أن وتيرة الهجمات السلفية ضد أهداف أجنبية وموريتانية ارتفعت إلي أن بلغت الذروة في إبريل/نيسان من العام 2008 بنشوب معارك دامية في شوارع العاصمة نواكشوط بين الجيش والمسلحين السلفيين.
وقد اقترن هذا الوضع الأمني الخطر، بالغلاء وتردي أوضاع المعيشة، واستمرار من يطلق عليهم الموريتانيون “قوارض المال العام” في احتلال الوظائف العليا في الدولة. وهذا ما أيقظ كثيرين من أحلامهم الوردية، ومهد السبيل أمام بداية العودة إلي المربع الأول.
ففي يونيو/حزيران من 2008 فوجئ الموريتانيون بمطالبة برلمانيين من الحزب الحاكم باستقالة الحكومة تحت طائلة حجب الثقة عنها.
وقد استجاب الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله لهذه المطالب فأقال الحكومة، ثم أقال أخري، فيما تسارعت الإنسحابات من حزب “العهد الوطني للديمقراطية والتنمية” وهو حزب الرئيس، وسط أجواء من الغموض لم تطل كثيرا، إذ تكشفت حقائق ما يجري، واتضح للموريتانيين أن صراعا يجري بين رئيسهم وقائد أمنه الشخصي الجنرال محمد ولد عبد العزيز الذي تأكد استغلاله قوي سياسية وبرلمانية في الضغط علي الرئيس.
وعلي الرغم من أن هذه القوي قالت في البداية إنها تحتج علي وجود بعض الوجوه البارزة في نظام الرئيس السابق معاوية ولد الطايع الذي أطاح به الجنرال عزيز عام 2005 ضمن أعضاء الحكومة، فإنه بدا بوضوح أن انقلابا من نوع جديد يجري الإعداد له ويستند إلي البرلمان والأحزاب بدلا من الدبابات.
غير أن الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله لم يعط الجنرال الوقت الكافي لتنفيذ انقلابه السياسي فعاجله وبعض رفاقه بالعزل من مناصبهم. وجاء الرد مباشرة بعد إعلان القرار في شكل انقلاب هادئ تلخص في احتجاز الرئيس في إحدي الغرف في مكتب قائد أمنه الشخصي يوم السادس من أغسطس/آب 2008 لتدخل البلاد منذ ذاك دوامة من العنف والعنف المضاد، والصراع السياسي بين غالبية سياسية تدعم الجنرال، وجبهة أحزاب تدافع عن الشرعية ممثلة في الرئيس المنتخب.
وقوبل الإنقلاب العسكري برفض دولي واسع، لكن الجنرال عزيز تجاهل التهديد الغربي بفرض حصار علي البلاد ما لم يعد الرئيس ولد الشيخ عبد الله إلي كرسي الرئاسة، ولم تفد ضغوط الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، والإتحاد الإفريقي إلا في الإفراج عن الرئيس فقط مع تأكيد أنه لا مجال إطلاقا لعودته إلي سدة الحكم.
وقد فشلت لحد الآن كل الوساطات الدولية في الحصول علي أي تنازل من الأطراف المتصارعة. ففي حين يصر ولد الشيخ عبد الله و”جبهة الدفاع عن الديمقراطية” الداعمة له علي أنه الرئيس الشرعي للبلاد ولا إمكان لتنازله عن السلطة شرع الجنرال عزيز في تنظيم أيام تشاورية تحدد موعدا لانتخابات رئاسية جديدة بحضور ممثلين لأنصاره السياسيين وفي غياب مشاركين من القوي السياسية الأخري التي تقول إنها لا تعترف بشرعيةالجنرال.
يدخل الموريتانيون العام الجديد وفي أيديهم مناديل مبللة يريحون بها عيونهم من غبار القنابل الغازية، ويافطات تحمل شعارات الرفض والقبول لانقلاب هو “كارثة” في نظر البعض، و”إصلاح” في نظر آخرين، لكن السؤال المرسوم علي جباه الكل هو: إلي أين نسير؟.
هل نسير إلي حصار اقتصادي، واستمرار تناحر سياسي لا احد يعرف إلي أين يدفع بالجميع؟ هذا ما يخشي البعض حدوثه في ضوء الرفض الدولي للإنقلاب، وتصلب كل الأطراف علي مواقفها. أم إلي انفراج تشجع مؤشرات إلي أن الأمور سائرة باتجاهه؟ ومن أهم تلك المؤشرات أنه بالرغم من حدة المواقف الدولية في البداية فإن إجراءات صارمة ضد الإنقلابيين لم تتخذ لحد الساعة. ويرجع محللون ذلك إلي الطبيعة الخاصة للإنقلاب فهو من جهة انقلاب علي الشرعية نفذه عسكري، لكنه في الوقت ذاته يستند إلي غالبية من الأحزاب السياسية وأعضاء البرلمان بغرفتيه (الشيوخ والنواب).
وهو انقلاب ترك الأحزاب السياسية والهيئات المنتخبة تعمل، وأبقي علي هامش الحرية الممنوح للصحافة. وقد اكتسب قائد الإنقلاب قدرا من الشعبية لتنفيذه سلسلة من الإجراءات تم بموجبها تخفيض أسعار المواد الإستهلاكية الضرورية التي ارتفعت في شكل جنوني علي مدي العامين الماضيين. كما تم تنفيذ مشاريع جديدة ذات مردود مباشر علي المواطن العادي، ووزعت قطع أرضية علي الفقراء في أطراف مدينة نواكشوط.
ويستند متفائلون عارفون بطبيعة المجتمع الموريتاني إلي خبرتهم في الميدان فيرجحون انفراجا يقدم الجنرال في إطاره تنازلات شكلية مثل الإستقالة قبل الإقتراع الرئاسي بوقت قصير ليرشح نفسه في انتخابات مفتوحة للرئيس المعزول أيضا، ويتولي رئيس مجلس الشيوخ الرئاسة 45 يوما يشرف خلالها علي الإنتخابات، وهذا ما ينص عليه الدستور في حال شغور المنصب.
وهذا مع احتفاظ الجنرال بمنصب قائد الامن الرئاسي الذي هو مفتاح الحكم وتولاه عزيز ثلاث فترات رئاسية اسقط خلالها رئيسين هما العقيد معاوية ولد الطايع والرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله، فيما خرج الرئيس الثالث العقيد علي ولد محمد فال من القصر طوعا في إثر انتخابات مارس/آذار 2007 التي لم يرشح نفسه فيها.