دروايش موريتانيون لا يبيعون الأرض ولا يتزوجون ولا يأكلون ما يزرعون
بومديد (موريتانيا) – الشيخ بكاي- (أرشيف)- القمر يسبح في عنفوان ناحية الغرب، يطل، ويغرق فى بحر السحب الأسود، ثم يطل، وشيئا فشيئا تنسحب كتل الظلام أمام أعمدة النور، وتستحم القرية – النائمة على جناحي كثيب يعانق السماء- بالضياء؛ ويهب نسيم يلين ليل ” بومديد” ويداعب أشجارا تمايلت فى تناغم مع رؤوس أشباح آدمية ملفوفة فى الأسمال ترى من بعيد فى ركن قصي من القرية: ” إنها تذكر الله…الأشجار تذكر الله…كل ما فى الكون يذكره”، يقول العجوز محمد، وهو يفترش الرمل على “صهوة” الكثيب متكئا على ظهره بين الدراويش المستغرقين فى الأذكار.
يتأمل الشيخ النجوم والقمرالمسافر يغسل البقع السوداء عن وجه السماء وينطلق – بصوته الأبح الحزين -:”…. ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار”…
تنام القرية و”يغفو”الدراويش على رجع صوت الشيخ تردده الوهاد فى أنتظار يوم من العمل الشاق فى المزارع يأخذ الدراويش منه النصيب الأوفر، لكنهم لا يأكلون منه ، ولا يلبسون ولا يدفعهم إليه أزواج ولا بنون فهم –أصلا- لا يتزوجون.
“صخرة سيزيف”:
“- “هذا البدن الفانى والطاغية فى آن ينبغى أن يكون تابعا لا متبوعا …والوسيلة الوحيدة هي إنهاكه بالعمل”.يقول محمد المختار لـ”الوسط”. ومحمد المختار عضو فى طائفة صوفية تتخذ من مدينة “بومديد” (القديمة ) الواقعة فى وسط موريتانيا مقرا لها، وتعرف ب”تلاميذ ولد آده”.
وتعتبر هذه الطائفة العمل اليدوي عبادة. وفى حين يرعى البعض الماشية تنغمس الغالبية فى زراعة الأرض. وهم يشرفون على سد كبير أقامه شيخهم محمد عبد الله ولد آده قبل أن يهاجر إلى المملكة العربية السعودية. ولهم مزارع خضار.
وقال محمد المختار لـ”الوسط”: “لقد خلقنا الله لنعبده، والعمل عبادة”. ويشرح: “نحن نسيطر على شهوات الجسد بالإنغماس فى العمل والذكر”. وأضاف الشيخ وهو يسحب الماء من بئر مستخدما آلة محلية تدعى”الشادوف” : “لم نعد نقدر على ماكنا نقوم به من عمل قبل الشيخوخة لكننا سنصمد بعون الله”.
ويحصد الزهاد لكنهم لا يأكلون من عمل أيديهم ولا يلبسون. وغذاؤهم فتات موائد القرية يتسابق الناس فى جمعه وإحضاره “لنيل الأجر”. وهم يلبسون خرقا بالية من مختلف الأقمشة والألوان (مرقعات).
ويقيمون فى “مغارة”مهجورة كانت ذات يوم بيتا من الطين لكن الرمل إبتلعه ولم يترك منه إلا منفذا صغيرا يدخلون منه ويخرجون .
وتسأل “الوسط”محمد المختار: “لماذا لا تأكلون من أموالكم ؟ وماذا تفعلون بالحصاد؟” فيرد:”ليس لنا مال ..هو لله نوزعه على الفقراء”. ويضيف: “نحن متجردون ومعنى التجرد ترك الدنيا لله”.
ويعتبر “تلاميذ ولد آده” “طبعة خاصة” من القادرية الموريتانية المتمثلة فى فرعين رئيسيين هما القادرية “الكنتية” نسبة إلى القبيلة التى أدخل بعض مشايخها هذه الطريقة إلى موريتانيا وغرب إفريقيا(كنتة). والقادرية “الفاضلية “نسبة إلى أسرة” آل محمد فاضل” الذين كان لهم دور كبيرفى نشر الطريقة. ويختلف هذان الفرعان فى بعض الأمور والمسلكيات. لكن الخلافات الكبيرة تأتى حينما يكون الحديث عن فروع أخرى مثل جماعة “ولد آده” التى تنتمى فى الأصل إلى “الفاضلية”، وجماعة أخرى تدعى “القظف” .
وتمنع القادرية “الكنتية” الأذكار الجماعية التى تتحول إلى “جذب”، و “رقص” ، و”غناء” (بالذكر) يختلط فيه الرجال بالنساء.. لكن “الذكر الجماعي” ممارسة عادية لدى “القظفية” التى ترى أن “الإسماع” أفضل وسيلة “لجذب الناس إلى الله”.
وتمتاز طائفة ولد آده بجملة من الأمور التى لا تخلو من غرابة.
ولا تتفق هذه الطرق على مفهوم التجريد ففى حين ترى “القادرية الكنتية” أن “التجريد” والزهد “لا يعنيان الإنقطاع عن الدنيا وعدم الإكتساب وتحريم ما أحل الله؛ إنما إفراغ القلب من حب الدنيا وبذلها فى ما يرضى الله” ، يوزع “القظف” المتصوفة إلى مستويات هي: مستوى “المريدالصادق” الذى يأخذ “وردا”معينا وله صلة بسيطة بالطريقة، و”المريد المكتسب” الذى له مكانته الصوفية لكن له علاقة قوية ب”الدنيا”، و “المريد المتجرد”، وهذا ينقطع نهائيا من الدنيا ويبقى فى خدمة شيخه” ؛ فمن لمس فيه الشيخ القدرة على أن ينفع الناس فى دينهم صدر(تخرج) وله هنا إستعادة العلاقة بالدنيا فى حدود سلوك “الصوفي الورع”. و”هناك من يمضون حياتهم متجردين” كما قال أحدهم لـ “الوسط”.
ويمر “المريد” قبل الوصول إلى مرحلة الصوفية بتدريب سلوكي شاق وتربية روحية صعبة. ويلخص الشيخ سيدي المختار الكنتي التربية فى أربع مراحل:”مرحلة النفس الدساسة”، وهي النفس البشرية فى مرحلة الفوضى وسيطرة الغرائز والأهواء. وبالمداومة على الذكر والتقوى ينتقل المريد إلى مرحلة “النفس الأمارة” ومن ثم “النفس اللوامة”، ليصل فى الأخير إلى مرحلة “النفس المطمئنة”، حيث يصقل القلب ويحل التواضع محل الرياء.
ويبقى “زهاد بومديد”ظاهرة خاصة.
ويمارس “تلاميذ ولد آده”الدربة البدنية إضافة إلى التربية الروحية. ومن الأعمال الشاقة التى يقوم بها هؤلاء إقامة السدود لحجز مياه المطر بوسائل بدائية منها جمع الرمل صيفا ووضع أغصان الأشجار الميتة فى المكان المراد أن ينحبس ماء المطر فيه. ودور الأغصان الميتة هو جذب الرمال الزاحفة . وحينما يأتى مطر الخريف يكون السد فى وضعية تمكنه من حبس ماء يكفى جزئيا لري الأرض..
لكن يبقى معرضا للإنهيار إذا جاءت أمطار غزيرة فى عملية شبيهة بدحرجة “سيزيف”صخرته تضمن أنهيار السد كل عام ليقيمه الدراويش مجددا، وينال”هذا الجسد الفانى والطاغية فى آن ” ماينهكه.
“بيع الأم” حرام:
تأخذ قرية “بومديد” إسمها – طبقا لما يقول تباع ولد آده- من بئر كانت موجودة فى المنطقة ولا تعطى إلا “مدا واحدا من الماء، لكنها بوصول شيخنا الشيخ محمد عبد الله تفجرت ماء عذبا” كما يقول محمدالمختار. ويضيف:”جاء شيخنا إلى الأرض وكانت السباع الضارية تفتك بالبشر والحيوانات الأليفة فأحرق الغابات وخدم الأرض وحاز ملكية هذه الأراضى الزراعية – الرعوية”، وهي – يقول الدرويش – : “حبس على جميع المسلمين”. ويفسر ذلك: “كان شيخنا يخاف على الأرض من سفيه يبيعها أويستولى عليها لنفسه (إشارة إلى أولاد الشيخ)”.
ويؤكد محمد المختار أن”شيخنا أفتى بعدم جواز بيع الأرض فهي أمنا ، وبيع الأم حرام”. ويضيف:”تصور بشاعة أن تبيع أمك وتأكل ثمنها”. ويعود إلى التأكيد:”هذه الأرض ملك لكل مسلم لا يستطيع أي أحد أن يقول للآخر هي لى .. لكل واحد الحق فى أن يزرعها ويبني عليها داره مدة حياته لكنها ليست ملكا له” .
وتقول مصادر محايدة إن زعيم الطائفة محمد عبد الله ولد آده كان رجلا قويا شجاعا إستطاع أن يقيم فى فترة قصيرة طائفة قوية على مقربة من طائفة “القظف” الأكثر إمتدادا فى التاريخ وتجذرا والتى يعود وجودها فى المنطقة إلى ثلاثة قرون.
وأقبل الناس على الزعيم الجديد من مناطق مختلفة من موريتانيا وكان من بين مريديه الجدد أغنياء يأتون بكل ثرواتهم ويسلمونها للشيخ ويسلمون أنفسهم له فى إطار البيعة ، وجمع ولد آده ثروة طائلة وقاد آلاف الرجال ، وكان – مثل معظم المشايخ- يأخذ من الأغنياء ويعطى الفقراء، وقد برزت ظاهرة ولد آده عام 1934م.
وفى شكل مفاجئ قرر الرجل ترك مجده فى “بومديد” والإنتقال إلى المملكة العربية السعودية حيث أقام، ومات “مجاورا” الأماكن المقدسة فى الحجاز. ومع أن ولد آده أمضى معظم وقته فى التعبد فى “مكان محدد” من الروضة الشريفة فإنه جمع فى الحجاز أموالا طائلة وكان له نفوذه الواسع فى بعض الأوساط خصوصا بعض أوساط الجالية “الشنقيطية” (الموريتانية) الكبيرة فى الحجاز.
وتختلف التفسيرات لهجرة ولد آده فهناك من يقول إنها”الهجرة فى سبيل الله”، وهناك تفسيرات أخرى يقدمها البعض… ويعطي أتباع ولد آده تفسيرا لا يقره الشرع وينسبون إليه نظما يتنبأ فيه بأنه سيموت فى البلاد المقدسة:
وطيبة المشرفه (…) لأنها فى الأزل …. فيها حلول أجلى
“لا نتزوج والأبوة إشراك بالله” :
يقسم أتباع ولد آده منتسبى الطائفة إلى فئتين :”مكتسبة”و”متجردة.”.
والمتجردون مجتمع رجالي لا يتجاوز عدد النساء فيه ثلاثا، وهم آخذون فى الإنقراض لأنهم كلهم عجائز وهم يحرمون الزواج على أنفسهم.
وتوجه إنتقادات لاذعة إلى أمتناع أعضاء المجموعة عن الزواج على اعتبار أن هذه الممارسة غريبة مناقضة لتعاليم الإسلام ولقوانين الحياة، لكن الدرويش محمد المختار الذى انتدبته الطائفة للحديث إلى “الوسط” يقول : “نحن نترك الزواج مخافة أن نشرك بالله غيره فمحبة الأولاد والدنيا شرك بالله”. ويضيف: “وقد هجرنا المال والولد ابتغاء مرضاة الله” .
الدرويش محمد المختار
ويصعد محمد المختار الحملة على “زينة الدنيا”: “ألم يقل ربنا: “إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ”؟ “. ويضيف :”… إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ”.. ويضيف قول الله :”وأعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا …” ويشرح: “علمنا أن المال عدو الله وأنه ما لم تف بحق الله عليك يكون اتجاهك إلى ما سواه شركا ولذا هجرنا الزواج وعادينا المال” … ويضيف :”الحب لله وحده …وليس هناك من هو جدير بالحب إلا الله”.
ويتعايش زهاد “بومديد” فى انسجام مع سكان القرية… وقالت حليمة الفتاة السمراء نصف المحجبة الحاصلة على قدر بسيط من التعلم لـ “الوسط”: ” هم أشياخنا نفعنا الله ببركتهم … وهم مسالمون لا يحاولون فرض سلوكهم على غيرهم “. وتضيف : “تزوج واحد منهم سرا فى البداية ثم أعلن زواجه ولم يضايقوه أو يطردوه”. وتنقل حليمة عن البعض قوله إن هذا الشخص :” يعانى أزمة داخلية لشعوره أنه أضعف من المتجردين الآخرين الذين نجحوا فى قهر شهواتهم.
وسألت “الوسط” أمير الجماعة محمد عبد الرحمن ولد أحمد قاسم عن “الموقف من المتجرد الذى يتزوج” فقال:”كلنا عبيد الله ونحن مثل الجمال منها الفحول ومنها الخصيان ولكل من الفحل والخصي مزاياه”. ويقول:”نحن نترك الزواج لأن ذلك وسيلتنا إلى البر”. ويورد الآية :(لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) .ويؤكد أن “الشهوة الجسدية أحب شييء إلى الإنسان”. ويقول :”زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين” ( إلى آخر الآية …) “.
ولعل الأغرب فى الموضوع أن مؤسس الطائفة محمد عبد الله ولد آده تزوج وأنجب الأولاد فمن أين جاء أتباعه بهذه التعاليم؟
يفهم من أقوال البعض أنه “مرخص للشيخ بما لا يحق لغيره”، ويقول آخر إن :”هذه الممارسة أحدثت بعد ولد آده، وأنه تبرأ فى حياته من بعض ممارسات أتباعه”. وهي ظاهرة تلمس لدى الكثير من الطوائف الصوفية التى يغالى أتباعها فى أمور لا يقرها زعيم الطائفة ولا يقرها الشرع فى الغالب.