على امتداد السنوات العشر الماضية، وعاماً بعد عام يقتل آلاف المسلمين على امتداد الساحة العربية والإسلامية من غير أي ذنب، يسقط مدنيون ونساء وأطفال أبرياء بسبب عمليات تفجيرية يقوم بها شباب متحمس دينياً يحسبون أنفسهم شهداء ويعدون اجرامهم جهاداً في سبيل الله، هؤلاء ( الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً).
الحياة نعمة كبيرة وهي هدية الله العظمى للأحياء، والذين يسعون إلى قتل الحياة هم الجاحدون لنعمة الله، الذين ملئت نفوسهم كراهية وبغضاً، لا يقدم على قتل نفس معصومة إلا نفسية غير سوية ترى الحياة كآبة وبؤساً. وديننا قد تشدد في تحريم وتجريم القتل ولا يوجد تشريع سماوي أو أرضي كالإسلام في جعل قتل نفس واحدة كقتل الناس جميعاً، فكيف بمن يستبيح قتل الناس بالجملة وبشكل عشوائي؟! هؤلاء أعداء الحياة وما أرخص دماء المسلمين عندهم! يدخلون بيوت الله ويفجرون أنفسهم في المصلين ويزعمون أنهم يجاهدون، ألا بئس ما زعموا!
في لقاء تليفزيوني قال فارس بن حزام – خبير الإرهاب – إن عمليات القاعدة بلغت أكثر من 3000 عملية و85% من ضحاياها مسلمون، ومع ذلك يدعون أنهم يقاتلون ضد أميركا وإسرائيل! إنهم كاذبون.
لقد كنا نأمل أن تنحسر هذه العمليات بعد مجيء ( أوباما) الذي مد يد المصالحة إلى المسلمين وتودد إليهم ومجد الإسلام حتى ظُن بأنه مسلم يخفي إسلامه وافتتح عهده بإطلاق سراح معتقلي غونتانامو ووعد بإغلاقه ومنع المحاكمات العسكرية وحظر التعذيب ومنع استخدام مصطلح (الحرب على الإرهاب) فلم تشفع له أعماله ولا نواياه عند المتشددين إذ تصاعدت عمليات القتل العشوائي لأن أعداء الحياة من أفراد القاعدة رأوا في موقف أوباما ضعفاً وتراجعاً فازدادوا ضراوة واستهدفوا أميركا في عقر دارها وزادوا عدواناً وبغياً في باكستان وأفغانستان والعراق والصومال واليمن.
اليمن اليوم منكوب بالقاعدة ويستنجد بالعالم لمساعدته وتجتمع الدول العشرون في لندن لوضع خطه لدعمها ويطالب رئيس وزرائه بخطة مارشال بقيمة 40 مليار دولار لتنميته وبفتح الأبواب الخليجية للعمالة اليمنية اتقاءً لشر القاعدة ومعالجة لجذور الإرهاب.
لقد أصبح العالم مذعوراً من المسلمين بسبب عملية عبد المطلب التي جعلت مطارات العالم تلجأ إلى استخدام الماسحات الضوئية (اسكانر) التي تظهر الركاب شبه عراة، القوم مضطرون لذلك وهم معذورون ومع ذلك يدخل مفتي تونس على الخط ويصدر فتوى بتحريم استخدامها لأنها ممارسات غير أخلاقية! ألا يعلم المفتي الفاضل أن الأمور قد تتطور إلى تفتيش ما هو أكثر حساسية بعد عملية (تفخيخ المؤخرة) المسجلة باسم الإرهابي الذي استهدف نائب وزير الداخلية السعودي (مقالة فؤاد الهاشم، الوطن الكويتية 27 يناير).
التساؤلات المطروحة في الساحة وبإلحاح : لماذا تصاعدت عمليات القتل العشوائي في ديار المسلمين؟! ومتى تتوقف؟ وهل من نهاية قريبة؟ لا يبدو في الأفق ما يشير إلى نهاية قريبة لهذا العنف المتصاعد على امتداد الساحة لأن المواجهة محصورة في المواجهات العسكرية ولا تواكبها معالجات فكرية تفكك البنية التحتية لثقافة التطرف وتعيد النظر في مفاهيم ومقولات لقنت للناشئة فأضعفت مناعتهم تجاه الغزو الإرهابي.
العنف الإرهابي المستشري وليد (ثقافة التطرف) وبطبيعة الحال ليس كل متطرف إرهابياً ولكن التطرف هو الطريق الممهد للإرهاب، وإذا أردنا معالجة هذا العنف المجنون علينا تجفيف منابع وروافد ثقافة التطرف، ثقافة التطرف كثقافة التعصب وليدة أسباب داخلية وعوامل تاريخية واجتماعية عديدة ترجع إلى تربية خاطئة، وتعليم آحادي منغلق، وخطاب ديني يتصور العالم تآمراً، وإعلام تحريضي يثير في النفسية العربية أسوأ نوازعها بغية الكسب الإعلامي، وخطاب سياسي غير بصير بمتطلبات النهوض وغير واعِ بجذور الإعاقات الثقافية والاجتماعية، لتجفيف روافد ثقافة التطرف علينا وضع استراتيجية طويلة وشاملة من أهم مرتكزاتها:
1- مراجعة أساليب التنشئة المبكرة التي يعبر عنها المفكر السعودي ابراهيم البليهي بــ (البرمجة) السابقة للتعليم، فأكثر المتطرفين كما دلت الدراسات التربوية والنفسية ما هم إلا نتاج تربية غير آمنة.
2- مراجعة مناهج التعليم لتنفتح على ثقافة العصر وتتلاءم ومتطلبات التنمية الشاملة لمجتمعاتنا وتغيير أساليب التدريس من (ثقافة التلقين) والحفظ إلى (ثقافة الحوار) والاستقلالية في التفكير واتخاذ القرار ومن الأهمية أن تكون المراجعة شاملة لـ (لبيئة التعليمية) بأسرها لا مجرد مراجعة المناهج وأساليب التدريس بحيث يشمل تحرير (المنبر التعليمي) من هيمنة المتشددين وتخليصه من التوظيف الأيدلوجي والتسييس اللذين يخدمان مصالح آنية ضيقة على حساب الأهداف الوطنية والإنسانية والحضارية.
3- ضبط (المنابر الدينية) وتجريم استخدام المنابر في غير أغراضها كتوظيفها لخدمة أجنده حزبية أو الترويج لأفكار متشددة أو التحريض على مصادرة الكتب والأعمال الفكرية، يجب أن تكون منابر بيوت الله منابر جامعة لا مفرقة، منابر لجميع المذاهب والاتجاهات تؤكد القواسم المشتركة وتنمي القيم والمبادئ الإسلامية العامة بصرف النظر عن الاختلاف المذهبي أو السياسي أو الطائفي.
4- تطوير الخطاب الديني نحو الانفتاح على الآخر وعلى معطيات العصر وعلى الثقافات الإنسانية وعلى افق المقاصد الشرعية وعلى واقع المجتمعات الإسلامية من غير خوف من عولمة أو فزع من غزو ثقافي على الدين والهوية.
5- الحد من نفوذ السلطة الدينية وكسر وصايتها على المجتمع وتضييقها على الحريات والمناشط الإنسانية ومصادرتها للإبداعات الفكرية والفنية.
6- ضبط الفتاوى المكفرة أو المحرضة أو المخونة أو المشككة في معتقدات الآخرين الدينية والوطنية وتجريمها قانونياً بحيث يكون من حق المتضررين مقاضاة أصحاب تلك الفتاوى والمطالبة بالتعويض عن الأضرار الناتجة عنها، لقد آن للدول العربية أن تسن قانوناً بتجريم الخطاب التكفيري والتخويني تماماً كتجريم القتل (توصية قمة مكة وقرار مجلس الأمن).
7- ضرورة أن تعامل الحكومات كافة الأديان والمذاهب معاملة متكافئة في برامج الإعلام ومناهج التعليم بمعنى حيادية الدولة ( إعلان باريس ).
8- فك الارتباط بين السلطات السياسية في دولنا والجماعات الأيدلوجية التي توظف الدين لخدمة أهداف سياسية.
9- تنظيم دورات تدريبية خاصة حول تجديد الخطاب الديني وثقافة حقوق الإنسان للوعاظ والأئمة ومعدي البرامج الدينية.إذا كنا جادين في معالجة ثقافة التطرف فيجب تجفيف منابعها الأولى وقطع جذورها الغائرة في التربة المجتمعية، فالتطرف أساسه عقيدة غلابة تدفع صاحبها إلى الاعتقاد بأنه يملك الحق وحده وأن الآخرين على بطلان وليته اكتفى بهذا القدر فهو حر في معتقده، لكن الخطورة تكمن حينما تدفعه هذه العقيدة المتطرفة إلى سلوك عدواني ضد هذا الباطل أو المنكر الذي يراه بوصفه جهاداً واستشهاداً، لا تفسير آخر لهذا التطرف الذي يجعل صاحبه يضحي بنفسه وماله وأسرته ومجتمعه، وبغير هذا لا يمكن لمظلمة سياسية مهما كانت كبيرة أو ظروف اقتصادية مهما كانت صعبة أو مصالح سياسية مهما كانت عظيمة أن تدفع الإنسان إلى تفجير نفسه في الأبرياء من الأطفال والنساء والمدنيين، فكل شعوب الأرض تشكو من مظالم عدة وكل شعوب الأرض تمر بمحن اقتصادية صعبة لكن لم نجدهم يتسابقون في قتل أنفسهم وقتل الأبرياء من حولهم، وحدهم شباب المسلمين يفعلون ذلك، وهذا يعني أن هنالك عقيدة متطرفة تكمن في عقولهم وتتحكم في نفوسهم وتدفعهم إلى العدوان الهمجي على أبناء دينهم ووطنهم بحجة أنهم على باطل وهم على حق.
التطرف يبدأ وينشأ في العقول، أولاً كفكر عدواني، ويترسخ في نفسية قلقة متوترة كارهة للآخرين المختلفين ديناً أو مذهباً ثانياً، ثم يترجم نفسه في سلوك عدواني ثالثاً.
ونحن لا ننكر أن عمليات التفجير والعمليات الانتحارية تحدث لدى كل الشعوب لكن هذا النوع من الانتحار العبثي والتفجير الوحشي والقتل العشوائي بالجملة لم يعهده العالم إلا لدينا وعلى أيدي شبابنا المندفع إلى قتل نفسه والآخرين اعتقاداً بأن ذلك أسرع طريق إلى الجنة وإلى لقاء الحور!
89 تعليقات