أحيانا يواجه المرء بعض المواقف التي يتمنى معها لو انشقت الأرض وبلعته من فرط ألمه او حرجه، مثل هذا الموقف قد يحدث في مواجهة مع زوجتك- لو كنت متزوجا- أو حوار ودي مع رئيسك في العمل تجد نفسك فيه تطير ذات اليمين وذات الشمال مع كل كلمة يقذفها اطال الله عمره، أو عند مطالعتك لصورة جورج بوش في اية فضائية، وهذا قد يحصل في كل ساعة عشرة مرات لأن الفضائيات تكاثرت كمستعمرات الفولفوكس.
لكل إنسان وسيلته في التغلب على مشاعر الإحباط التي تنتج عن هكذا مواقف، أخي مثلا يطفئ الأنوار، يشعل جهاز التكييف، يتمطى، يتغطى، ثم ينام!، أما صديقي المربي الفاضل فلا يجد أمامه وسيلة سوى أن يشفي غليله في من تحت يده من الطلاب المساكين.
آخرون وهم أكثر الناس ، يلجؤون تفاديا لمشاعر الإحباط إلى السفر عبر الزمن، والعودة إلى الماضي السعيد يوم أن كنت قادرا على شراء سيارة داتسون نيسان 6 سلندر بثلاثين ألف ريال فقط ، تصور!!!.
وأنا من هؤلاء الناس، أهوى نسبية الزمن، التي ابتدعها العبقري هربرت جورج ويلز في رائعته “آلة الزمن”، وقننها العالم اليهودي أينشتين، ورسخها فينا الكاتب المبدع د. نبيل فاروق.
فما أن ينتابني شعور بالملل أو القرف، حتى أسارع إلى تقليب الفضائيات لأثبتها على قناة سبيس تون، لعلي أجد حلقة كارتونية تذكرني بالعهد القديم ، أيام كيس الروبيان (البفك) والعصير أبونص في فريق النجمة.
إن لم اجد ، فألجأ إلى المخزن حيث تتكدس الأشرطة القديمة، لأخرج واحدا ادسه في جهاز الفيديو لأتمايل مع حلقة من حلقات مسلسل جزيرة الكنز أو جرندايزر، وربما الهداف، لكن أحيانا تكون مصيبتي أكبر ، فأنسلخ عن واقعي تماما، عندها أركب سيارتي وأبدأ في التجوال في شوارع فريق النجمة ودواعيسها، حيث أحلام الطفولة الوادعة، والماضي الجميل، وهكذا كان الحال معي بالأمس.
مررت بالقرب من مدرسة خالد بن الوليد ، رأيتها صامتة مهجورة، خربة منذ سنوات، توقفت ثم ترجلت ، أخذت أذرع ساحاتها وأفنيتها، أدخل مبانيها، وصفوفها التي باتت مأوى للقطط والعناكب، لعلي أجد خالدا، بح صوتي وانا أصرخ، للأسف كل ماوجدته، كان سيفا مثلوما أصابه الصدأ، زادني هذا السيف بؤسا، فعدت مواصلا طريقي لأتوقف هذه المرة امام الأندلس، أقصد أطلال “مخابز الأندلس”.
كان هذا المخبز عندما بدأ عمله في الثمانينيات علامة فارقة في تاريخ فريق النجمة، ظنناه إختراعا من الفضاء الخارجي، أو ربما بداية دخولنا لمنافسة حضارية حقيقية مع الغرب المتقدم تكنولوجيا، هكذا يقول والدي اطال الله عمره.
فعهدنا بالمخبز هو “المخبز الإيراني”، حيث يقف الخباز المسكين بفانلته الوسخة وعرقه الذي يهطل صيفا وشتاء أمام التنور الساخن، يضع بداخله العجينة التي يكورها له زميله ويفردها هو، كل هذا يحصل في محل صغير ضيق، يتميز بوجود المروحة دون التكييف، وإن تطورنا قليلا في الحديث عن المخابز فهناك “المخبز اللبناني” الذي لايختلف في فكرته كثيرا عن نظيره “الإيراني” أو “الباكستاني”.
أما “مخابز الأندلس” فقد كان فريدا من نوعه، شيء لا يصدق، كنا نقف نحن اطفال الفريج منبهرين امامه، فقد كان آليا من البداية إلى النهاية، فهناك أجهزة تقوم بخلط الطحين بالماء بنسب مقدرة، ثم يتم العجن آليا، ومن ثم يكور العجين ويفرد بواسطة أذرع ميكانيكية.
ليتجه العجين في النهاية بواسطة سير متحرك تجاه الفرن، حيث يخبز، ليخرج ناضجا شهيا منتفخا نتيجة لتمدد غاز ثاني اكسيد الكربون الذي نتج عن تفاعلات الخميرة، فيتلقاه العامل أخيرا ليدسه في أكياس، ويصبح جاهز للاستهلاك.
واتخذنا نحن شياطين فريق النجمة كما كان يسمينا الكبار – مع انني أجزم باننا كنا اكثر طيبة وبلاهة من أطفال اليوم – من ساحة المخبز المسورة ملعبا لنا، نمارس فيها جميع الألعاب التي قد تخطر على البال ولاتخطر، مثل “الخشيشة” و”الجلينة والماطوع” وحتى كرة القدم، اليوم انتهى كل هذا، فالمخبز مغلق منذ زمن، مهجور مظلم، يقف مترنحا دليلا على عهد مضى، اطال مالكوه السابقون سور المخبز حتى يصعب اقتحامه، وأقاموا له بابا من حديد ، ليقف عائقا صلبا أمام طموحات أي شخص يفكر في اقتحامه، للنظر فيما وراءه.
لا أعلم يقينا سبب توقف المخبز عن العمل، يقولون بأن الشركاء اختلفوا فانهار مخبز الأندلس، إنها لعنة الفردوس المفقود إذا، إختلف العرب في الأندلس ليشكلوا ضمن مساحة شبه الجزيرة الإيبيرية 22 دولة – واظنها نفس عدد الدول العربية اليوم حتى الساعة لو لم تقسم العراق بعد الدستور سيء الذكر- ففقدنا عزا ومجدا، أسسه عبدالرحمن الداخل، وعززه الناصر، اختلفنا فسقطت غرناطة آخر الممالك العربية سنة 1492م، هذا قدر “الاندلس” إذا، دولة كانت أم مخبزا، أن تنهار فجأة دون نصير أو معين.
أخذت أطوف حول سور المخبز وذاكرتي تطير بعيدا نحو الثمانينيات وأوائل التسعينيات، تملكتني نشوة وسعادة اختلطا بحزن جميل، هل هو مايسمونه الشجن ؟!، لا أعرف، نظر لي عامل آسيوي يطوف بالمنطقة متعجبا، هز كتفيه ثم رحل.
أما أنا فقد وجدت اخيرا فتحة في السور، لا ادري من صنعه أو كيف، كل ما ادركته أني تسللت عبره إلى الداخل، حيث تقبع احلامي المجهظة، وآمالي الباقية، كانت الشمس قد غربت منذ لحظات، وأذان المغرب يرتفع عاليا مجلجلا من مسجد جابر القريب، الذي تم تغيير اسمه مؤخرا، دون استشارتي، لحظات اتجول فيها هنا ثم سأذهب لأداء الصلاة.
أخذت أتلفت حولي بسعادة، وأتنشق الهواء النقي، كل شيء كان يوحي بأن رحلتي القصيرة هذه ستمسح كل أحزان اليوم، مضت علي بضع دقائق ثم قررت العودة ، قبل أن أخرج التفتت من جديد للمرة الأخيرة تجاه المدخل الرئيسي للمخبز، ففوجئت برؤية ثلاث رجال، يقفون خاشعين يؤدون الصلاة، بالقرب منهم طاولة مهترئة، ونارا مشتعلة وضع فوقها إبريق الشاي، يا إلهي، من تراهم يكونون، عدت ادراجي واتجهت نحوهم، صليت معهم ثم التفت إليهم ، كانوا يرتدون أسمالا بالية، معالم الفقر واضحة على وجوههم، خيم الصمت للحظات إلا من قرقعة الخشب المحترق قبل أن يرحب بي أحدهم وكأنه يعرفني منذ زمن : مرحبا صديقي، هل سمعت مايقوله هذا الحمار- بتشديد الميم- محمد بن أبي عامر ، يقول بأنه سيحكم الأندلس ذات يوم!.
ضج اثنان من الثلاثة بالضحك، بينما علت ابتسامة ثقة وجه ابن أبي عامر، قال الرجل الثالث شارحا لي القصة : نحن نعمل حمارين في السوق، أي أن كل منا لديه حمار، يتجول بواسطته في السوق ويحمل البضائع للرجال والنساء مقابل دراهم معدودات، والليلة جاءنا ابن أبي عامر بالخبر الفذ، فقد زعم أنه أهل لحكم البلاد، فهل تصدق؟!.
قال ابن أبي عامر بصوت هادئ واثق : صدقا، للمرة الألف آمركما أن تطلبا طلبا أحققه عندما أصل للحكم.
قال الأول ساخرا : حسن أريد قصرا، أموالا، الكثير من الجواري.
” حبا وكرامة” أجابه ابن أبي عامر بلهجة المانح الكريم ، ثم التفت إلى الآخر”وأنت ياعزيزي عبدالله؟!”.
أجابه عبدالله بفاصل طويل من الضحك، ثم قال : لو حصل ماتقول فاحملني على ظهر حمار، رأسي تجاه مؤخرته، وطف بي شوارع قرطبة.
لم يزد ابن أبي عامر هذه المرة عن القول “حبا وكرامة”، وهنا حصل أمر عجيب، اختفى الرجال الثلاثة فجاة، وأضيئت أنوار المخبز، وبدأ يعمل من جديد، لينتشر عبق الخبز الطازج الساخن في الأنحاء.
مرت بضع ساعات، ربما سنوات لا أدري، على طاولة حديثة الطراز نوعا ما، في ساحة المخبز نفسه، جلس رجال ثلاث يرتدون بدلات عسكرية، ميزت فيهم بحكم خبرتي السياسية رؤساء مصر وسوريا والعراق السابقين.
قال الرئيس المصري : لألقين إسرائيل في البحر .
هلل رفيقاه فرحا، ضج العالم العربي نشوة وإثارة، ضحكت الأمم المتحدة ساخرة، فقال العراقي: لأحرقن نصف تل أبيب.
من جديد هلل رفيقاه فرحا، ضج العالم العربي نشوة وإثارة، ضحكت الأمم المتحدة ساخرة، بينما السوري يقول: لأقطعن الماء والهواء عن إسرائيل، وسيصبح دعم المقاومة قضيتي.
من بعيد لمحت حمار منهكا، مزينا بالورود، يسير في شوارع قرطبة التي تهتف باسم الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر، وعلى ظهره حمار – بتشديد الميم – وجهه تجاه مؤخرة الحمار.
عدت لأرى مافعل القادة الثلاث، فوجدت انهم لم يدرسوا الجغرافيا جيدا، فالمصري بعث قواته إلى اليمن ليرهقها بؤسا وقتلا، ظنا منه أن الطريق إلى القدس يمر عبر صنعاء، أما السوري فقد كان خطؤه أقل وضوحا، لقد اقترب كثيرا من فلسطين، لكنه بدل أن يتجه جنوبا، سار شمالا تجاه لبنان، فظلت قواته هناك بلا حول ولا قوة، حتى اضطر يوما لسحبها مرغما.
أما العراقي فقد رأى أن تحرير فلسطين من اهم أولوياته، لكنه اعتقد خطأ بان الكويت هي فلسطين
على بعد عدة سنوات ، وآلاف الكيلومترات، وقف أبوعبدالله الصغير، على تبة في غرناطة ليبكي بكاء مرا مزق نياط القلوب، فهزيمته اليوم هو من صنعها وتسبب بها، يوم أن فضل الغريب على الصديق.
هززت رأسي بعنف، عدت إلى الأندلس، أقصد اطلال “مخبز الأندلس”، تسللت عبر فتحة السور مبتعدا عن هذا العار، إرتفع عاليا أذان العشاء، ولا أدري إن كنت حقا اديت صلاة المغرب مع ابن أبي عامر، أم أن كل ما مر بي أضغاث أحلام.