من المسلم به أن موريتانيا لن تستقر سياسيا ما دام بها حزب حاكم مدعوم من رئيس الجمهورية والوزراء والمدراء والولاة والحكام…، فنوع هذا الحزب هو ما دفع بالأوضاع السياسية للتردي في زمن ولد الطايع، وتتالي الأزمات والاضطرابات والمحاولات الانقلابية…، وذلك لاعتماده علي طبقة حزبية من الانتهازيين والمفسدين من مسؤولين وتجار ووجهاء ومتنفذين ممن اعتادوا الالتفاف حول الأنظمة الحاكمة تملقا وموالاة زائفة، ثم ينفضون عنها عندما تتهوي أركانها نحو السقوط ، ليبحثوا عن “لجوء سياسي” جديد ولو كان في صفوف المعارضة التي كانوا يلعنوها بالأمس، أو ليتحلقوا وهذا هو الغالب، حول المنتصر الجديد، ليشكل بهم “حزب الدولة”، وتبدأ سفينة النفاق والدجل والفساد تدور من جديد لتأتي علي كل اخضر ويابس من موارد الأمة ومن قيمها الأخلاقية التي ظلت تعتمد الصدق والإخلاص والأنفة والإباء الرافض للظلم والمذلة والخضوع لجبروت الدكتاتورية والفساد.
كانت لموريتانيا تجربة طويلة مع هذا النوع لأكثر من عقد من الزمن مع ما يسمي بالحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي الذي أسسه ولد الطايع واحتكرت من خلاله طبقته الفاسدة موارد هذه البلاد من ثروة وسلطة وسلاح…، وبعد ما جاء عسكر”العدالة والديمقراطية” سنة2005 ، منقلبين علي أبا الديمقراطية كما كان يطلق عليه من حاشيته الفاسدة- حصل توجه جديد لدي حكامنا الجدد والمقربين منهم من أعوان “النظام البائد” وخصوصا من صفهم الثاني، يري بضرورة خلق تيار غير حزبي سموه بالتيار الثالث أو المستقلين، الذين اكتسحوا في أول ضربة انتخابية بدعم من العسكر السياسي الماسك بالقرار، مجلسي الشيوخ والجمعية والوطنية، ليتحولوا بتوجيه من سكان القصر “الزاهدين في السلطة” غير المترشحين للرئاسة، نواة أولية لدعم “الرئيس المؤتمن”، وبعد فوز هذا الأخير طلبوا منه كما هو معلن تشكيل حزب لدعمه، فكان حزب “عادل” الذي انتظم فيه الموالون للرئيس والمقربون منه، بعدما كانوا قبل ذلك بأشهر قليلة ينتقدون الأحزاب معتبرينها لا تمثل السواد الأعظم من الجماهير.
وفي الأيام الأولي لسقوط “الرئيس المؤتمن” وسيطرة المجلس العسكري في طبعته الثانية علي حكم البلاد، بدئت طبقة الداعمين للنظام القديم في ثوبه الجديد تتشكل وتدب في مفاصلها الحياة من جديد، لتؤسس ما أصبح يعرف بالاتحاد من اجل الجهورية الذي كان الرئيس الحالي للبلاد يتولي رئاسته قبل الانتخابات الأخيرة.
وهذا الحزب الجديد لا يختلف كثيرا عن حزب الشعب وهياكل هيداله والجمهوري الطائعي وعادل المؤتمن، فكلها أحزاب تؤسس وتحمي من سلطات ماسكة بالحكم لمصالحها الخاصة وبقائها في الحكم علي حساب الجماهير، وكما يقال:” فالحزب هو قبيلة العصر الحديث..وهو الطائفة، و إن المجتمع الذي يحكمه حزب واحد هو تماماً مثل المجتمع الذي تحكمه قبيلة واحدة أو طائفة واحدة.”
وفعلا فان الحزب غالبا ما يرفع شعارات وردية كثيرة يغري بها الجماهير، ويدفعها للتصويت له ان لم يلجا لتزوير إرادتها، لكن الذي يحدث بعد الانتخابات وفوز الحزب بالسلطة وكعكتها، هو أن ينفصل عن الشعب وهمومه الحقيقية، ويتفرغ كحزب حاكم للبحث عن مصالحه والسيطرة علي المواقع الهامة والدسمة في الإدارة والمؤسسات العمومية، والدفاع بشراسة عن مغانمه في السلطة، ولو باستخدام القمع، والزج بالمعارضين في السجون، وفرض الأحكام العرفية أحيانا، وتغيير الدستور، واتخاذ كل الإجراءات التي تمكنه من الاستمرار في الحكم لأطول فترة ممكنة مهما كانت خسائر الشعب ومعاناته، ويصبح المواطنون الذين لا ينتمون للحزب الحاكم أو يعارضون تفرده بالسلطة وامتيازاتها التي تكون حكرا عليه وعلي أعضائه وقادته الكبار، هم الضحية الأكبر، حتى أن نسبة كبيرة من الجماهير تتجاوز احيانا48% من عدد الناخبين تظل خارج اللعبة يمارس عليها الحزب الحاكم وما يسمي بأغلبيته أنواع الغبن والاهانة والتهميش.
إن هذه الأساليب العرجاء في الحكم لا علاقة لها بالعدالة والإنصاف أو الديمقراطية والمساواة، وهي ما تجلب في الغالب الأعم أنواع القلاقل والأزمات السياسية، بل والانقلابات العسكرية، لكون مجموعات قليلة تتمتع بالدولة وخيراتها بانفراد، وبقية أفراد الشعب ينظرون متسائلين عمن أعطي الحق لهؤلاء في احتكار السلطة بوظائفها وامتيازاتها وهيبتها لصالحهم وحدهم دون بقية الشعب، الذي يصبح مسلوب الإرادة حقبا تلو الحقب، تزور الانتخابات باسمه ويساق كالأنعام ترغيبا وترهيبا نحو صناديق الاقتراع التي لا يفوز من خلالها إلا الحزب الحاكم والحزب الحاكم وحده، وبالتالي فان مصيبتنا السياسية، ومصيبة كل الشعوب المبتلية بهذه الأحزاب هي مشكلة الحزب الحاكم ووجوده أصلا ، لأنه يجعل رئيس البلاد وحكومتها لا تعنون كثيرا إلا برعاية مصالح حزب واحد وطائفة واحدة هي طائفة الحزب الحاكم، وبقية المواطنين من خارج هذا القطيع يتحولون إلي الدرجة الثانية والثالثة في المواطنة ونيل الحقوق المشروعة.
فهل هذه هي الديمقراطية التي هي حكم الشعب نفسه بنفسه، بسيطرة تلك الطبقة السياسية وحدها علي شؤون البلاد والعباد لعشرات السنين، مكونة لطبقة نافذة تتوارث الحكم ، وكأنه ملك لها وحق موروث؟.
112 تعليقات