الأستاذ/ عبد الله العالم
إداري- خبير استشاري
حدث النخل قال ذات زمان
كان مهدئ للفاتحين مقيلا
أكلوا التمر زادهم ونواه
قد رموه فكنت منه النخيلا
عودوني أن لا أروم انحناء
وليك الجدب – لو يشاء- طويلا
قدر النخل أن يظل دواما
شامخ الهام أو يكون قتيلا
عندما ينبلج لك في ظلمة التراكمات المستوي الحقيقي للفشل تفزع، وتفزع أكثر لما تلمس في أحاديث التلاميذ تبرير الفشل ، لكنك عندما تطلع علي حوارات بعض النخب لن تسمح لنفسك بالعبور من تحت الحمل، و العبور من تحت الحمل( بكسر الحاء وجزم الميم ) عبارة بدوية خالصة يستخدمها أهل العير لوصف عدم الاكتراث بمصائب الأهل و الذوي، فهي إذا في بؤرتها الدلالية قدح مشين يمس المروءة والأخلاق.
ولئن كنت- كغيري- أستاء من إضفاء الشرعية على الرسوب وجعله قيمة مؤسسة لمنهجنا الحياتي، فاني مع ذلك أتفهم حتميته المغاربية –على الأقل – وأرى جذورها الكامنة في الانقسام الصاهر لوعينا، العابر على جثث قيمنا والمنتج لسياسية الارتباك في ميدان الممارسة الفعلية للحكم .
ومع أن قادتنا أو بعضهم، عمل كل ما يقدر عليه ،أي لا شيء ، في سبيل خلق ما يشبه الدولة، فان المسعى الاستهلاكي لبعض المتعلمين (ولا أقول المثقفين)، العاملين علي هامش المنفعة والجاثمين على أنفاسنا، الساعين إلى تدمير آخر الخنادق(الثقافة) المسؤولين عن ويلاتنا منذ سقوط غرناطة …، كان دائما قويا بما فيه الكفاية لتحوير فكرة الدولة إلي مجرد نظام للنهب وتعطيل المطالبة بالإصلاح. و أخيرا وصل بهم الإبداع في إطار تدبير الشأن العام إلي ابتكار النظام – الفرد،الذي هو نمط للحكم يتولي فيه القائد كل شيء، من اعتماد للسفراء و رسم للسياسات العامة إلي تنظيف الواجهات الزجاجية لمحال بيع النعل الايطالي…. فكل تلك المهام أمور إستراتيجية تمس مستقيل الأمة ولا تسند إلا لمن جباهم الله بالإلهام ،الذي يحظي به القائد دون سواه من الأمة
فهذه النخب التي دفعت بها القوي الغربية (بالمباركة أو الخلق) لمواصلة دورة الإفقار وامتصاص مقدرات الأمة، غدت مسؤولة :
عن عدم تنقية العقيدة الشعبية من الأدران والشوائب التي لحقت بها عبر العصور، كالتزمت والانحلال، وذلك بسبب قصور فهمها لمذهبنا المالكي الأشعري
وهى مسؤولة عن مسخ كنهنا الثقافي بواسطة تركيزها الدائم على فك لحمتنا والتشكيك في وجداننا،
وهى مسؤولة عن تخريب مسلماتنا الاقتصادية والمالية بخلقها طوابير من آلاف الجياع مقابل إثرائها دون سبب وجيه، مباعد ة في ذات الوقت بين أغنيائنا وفقرائنا . . . وهى أخيرا مسؤولة بسبب ممارستها الطويلة لعدم المسؤولية .
غير أنى وأنا أتأمل هذا الهم المتراكم في أزمنة رديئة من عمرنا المغاربى المثلوم الوجدان، أزمنة أفقدتنا كل شيء، حتى القدرة على التمييز بين أيامنا السود من أيامنا البيض. استحضرا ذا، عبارة: اقرأ يا بني، التي كان يستقبلني بها أستاذي لمادة القانون الدستوري الدكتور عبد الرحمن القادري.
والفقيه القادري هو أحد أئمة القانون ،كنا – نحن أبناء المغرب العربي- نلجئ إليه في الرباط عندما تتكالب علينا سهام الضياع ، استطاع في بداية التسعينيات تجاوز مفاهيم عدة، ناذرا نفسه للتبشير بفضائل التكتل و منافحا -في أحاديثه الفرعية مع مريديه من الطلاب- عن مغرب الشعوب المؤدي في المقام الأول إلي الانسجام الاقتصادي، ساعيا إلي بلورة ذلك في اطر الشرعية الكفيلة بصون الحرية، وقد رحل مع الأسف دوت أن يرى تجسيدا لحلمه الجميل، ولكن:
لا علينا إذا جلسنا بركن وفتحنا حقائب الأحزان
وقرأنا أبا العلاء قليلا وقرأنا رسالة الغفران
والمهم أن مربط الفرس هو الثقافة التي رسبنا أحسن ما يكون الرسوب في الوصول إلى إدارة منظمتها “اليونسكو”، فهل كان ذلك فتحا مبينا أم انه مصداق كوننا مجرد مزيج من “عصبية الظلم وغباء التجبر”.
وإذا كانت معاناتنا اليوم تتجلى في هذا الرسوب فذلك لأننا –وان بصمنا – أزمتنا، فإننا لم نعشها يوما كقضية بل كنا دائما على سطحها نقطة هامشية، تلك الأزمة التي تلمس د. برهان غليون جذورها في عمق تاريخنا الحديث والذي هو تاريخ استبعاد الجماعة من ساحة المبادرة والفعل والمشاركة في الحضارة العالمية .
ورغم تزايد الشعور بالرسوب، فان تحرير الطاقات العقلانية اللازمة لاحتوائه يواجه تكبيلا رهيبا، وبهذا نستمر غير عابئين بحالة الاسترقاق التي تمارسها النخب، راضين بذلك و مرددين بكل خمول:
إنما نحن والحمام سواء
لم تفارق أحيادنا الأطواق
نستمر إذا مأخوذين بالوهج” التايواني” لهذه النخب التي لا تبذر اليأس فحسب، وإنما تعطل مساهمة قطاعات واسعة من المجتمع في عمليتي الإنتاج والقيادة بواسطة إلغاء المسؤولية على الآخر والإمعان في الحرمان الذي من رحمه يولد المتطرفون، فهل من مفر من الرسوب إذا كان الحصاد هو هذا؟
ومع أن الانتشار الواسع للمدارس خلق نخبا متشبعة بالمعارف التقنية والفنية في أمم مشابهة، ساهمت سلطها المركزية في نبذ الطائفية وترميم اللحمة الوطنية وأنتجت صناعتها ثروة وطنية حدت من الفوارق، فان أزكى ثمارنا كانت:استلابا ميز نخبنا وتجبرا طبع ساستنا وجشعا خص رجال أعمالنا، وذلك لكوننا أهملنا الجوهر الذي هو الثقافة والإنسان وهو ما جسده اهتمامنا الفولكلوري المبالغ فيه بزيادة نسبة التمدرس بغض النظر عن المحاذير الكثيرة و اعتمدنا مقاربة أمنية غدت غولا يلتهم الحرية الفردية وينهك المبادرة الصناعية بدل تقوية سلطة مركزية تكرمنا وتحمينا. “فمتى يلغى اليم تابوت هذا الضياع” ؟
لقد حذر المحرومون على لسان “أمين معلوف” من امتهان الشرعيات ونسيان التضامن وطالبوا بمجابهة النسبية الأخلاقية وخطر الأنانية الآئل إلى اعتماد أسوء المفاهيم: ” أنا أو الطوفان”، فهل ندفع حق العبور أم يجرفنا الطوفان؟
فحتى “لا نعبر من تحت الحمل” لابد من دفع ثمن الرسوب ولن يتسنى لنا ذلك إلا بوعي فاجعى يسمو به ألمه إلى مرحلة التضحية، وقت إذ فقط يمكن أن نتلمس مكمن الداء فنبحث عن الدواء منخرطين في ديناميكية الاستشفاء التي يعطيها التاريخ باستمرار معان جديدة ،مبتعدين عن الاستطراء بأقوال صارت جوفاء لطالما رددتها – محقة- الأجيال الفاتحة كثمرة لكدها واجتهادها، ذلك الاجتهاد الذي غفلناه نحن الأبناء
لا يجوز لنا – والحالة هذه- الافتخار بامتلاكنا ذات مرة لنصف العالم وأننا كنا أصلا للتطور، كما لم يعد من اللائق تذكير الآخرين دوما، بأنه في الوقت الذي كان فيه أجدادنا يتفننون في العدل بين الناس وابتكار الأدوية ،كان البعض يتعلق بأذيال البقر و يؤسس لزواج المثليين ومكننة العلاقات الأسرية،
فمن أين بالسلوى لنفس ترومها
فذي قدسها نهب وذاك عراقها.
إن تراكمات الرسوب قد بلغت حد الاسترقاق ولا إنعتاق إلا بمراجعة شاملة للبنيات المترهلة كطرق منح الحق والحق في حد ذاته الذي هو أصل الملك و أسس التأهل وتشريع استخدام العنف وشرائع الاغتناء …كل ذلك ليس بديهيا و لم يحسم بعد
ومن السهل في ظل الأزمة أن تهذَِب نخبنا خططها القديمة وتحليها بأختام جديدة، دافعة بها كدواء تهدئة، وإن كان أوان الكي قد حان
لابد إذا من اعتماد تراتبية أخلاقية للقيم تمجد الثقافة وتسعى إلى الخلاص بواسطتها لا بالانتخاب ولا بالانقلاب، لكن بالحبر والدواة كخنادق أخيرة في معركة الزوال.
ونحن في المغرب العربي أعطتنا الهزات الأخيرة درسا إن لم نستوعبه قد لا نقدر على الثمن و حتى العبور من تحت الحمل، سنعجز عنه، فليس صدفة أن يخرج انتحاريو انواكشوط والدار البيضاء والجزائر من نفس المشكاة: من أحياء شعبية يطحنها الفقر المعرفي قبل أن يأكلها العوز المادي .
ربما يتضح “لأربابنا الجدد” دور المدرسة في تنقية العقيدة الشعبية من الأدران جراء العوز والفاقة المؤديان إلى بهوت الجوهر الذي هو “اقرأ”، فكيف لأمة أقر نبيها الصادق الأمين أن حبر العلماء أزكى من دم الشهداء و اعتمد علماءها ورثة له، أن لا تمجد العلم الذي باعتماده وسيلة للارتقاء نكرس كنها ربانيا مجسدا في الإسلام وغيره من الديانات الإبراهيمية الموحدة الممجدة للفكرة
فهكذا، يعطي العهد الجديد بأناجيله الأربعة(متى،مرقس،لوفا،يحني) أبعادا عاطفية غاية في الرقة والجمال ،فضلا عما أورده كتاب التلمود (العهد القديم) “لا يثبت العالم إلا نفس الأطفال و هم يتلون”.
240 تعليقات