قصة مكان : مطعم سندباد
كانت مدينة نواكشوط خلال عقد الثمانينات رغم حداثة عهدها لاتخلو من مظاهر مدنية كثيرة…خصوصا وسط العاصمة، فعلى امتداد شارع ” جمال عبدالناصر ” حتى ” المستشفى الوطني ” كانت توجد مؤسسات كثيرة تبيع بضائع قمة في الجودة…حينها لم يكن التجار الموريتانيون قد أهتدوا بعد على طريق ” دبي ” و” الصين “… من بين تلك المؤسسات الكثيرة التي كانت موجودة على ذلك الشارع ممثلية لشركة الأحذية ” باتا Bata ” وهي من أشهر ماركات الأحذية العالمية غير بعيد منها كان يوجد محل La moda ثم سوبرماركت S.M dipal…وشركة ” زركان ” لألعاب الأطفال ” ..وفي الطرف الآخر من نفس البناية ” مخبزة حجار ” وهي من أقدم مخابز نواكشوط الحديثة..وقرب تقاطع B.M.D تتربع بقالة ” فواز ” ذات الشهرة الكبيرة أنذاك والتي كانت تنتج ” ياور فواز “.. تقابلها من الجهة الشرقية ممثلية سجائر..Peter Stuyvesant الرائجة تلك الأيام…وبامتداد الشارع ناحية المستشفي الوطني كانت هناك ” أوبتيك ” للنظارات لمالكها الفرنسي والوحيدة للنظارات يومها ..غير بعيد وفي الجانب الآخر من الشارع كانت تنتصب لوحة كبيرة لعامل يرفع إبهامه على مقر ” كاتربيلار موريتانيا …في هذه المنطقة ذات النشاط الدائب تلك الأيام كان ينتصب ” مطعم سندباد ” قرب سوق كابيتال من الجهة الشمالية قبالة دار ” المحاربين القدامى “..كان هذا المطعم لعائلة لبنانية من العائلات ” الشامية ” الكثيرة التي أستوطنت نواكشوط منذ مطلع الستينات وكانت توجد بكثرة في تلك المنطقة من نواكشوط…
لم يكن ” مطعم سندباد ” مجرد مطعم بالنسبة لجيل الثمانينات رغم كونه من المطاعم الحديثة القليلة أنذاك (كمطعم زبيدة..مطعم فينيسيا…مطعم الرمال…مطعم الزهراء ..)، بل كان نافذة على المستقبل ففي هذا المطعم تذوق جيلنا لأول مرة ” السندويتش” و ” الحلويات ” و “العصائر “…بعد أن كان قاموسنا مقتصرا على ماعند حوانيت الحي تلك الأيام من ” أمبورو بير ” وبسكويت ” أكوييطه ” و بسكويت لحشيشه ” و ” بسكويت Bandama “…
لم تكن لجيلنا معرفة تذكر بالفواكه المنتشرة هذه الأيام عدى “مانجو ” حيث كنا غالبا مانشاهد الأصناف الموجودة منها أنذاك ( البرتقال-التفاح-الموز) معروضة قرب المستشفيات وفي أغلب الأحوال لايحظى بها غير المرضى أو مرافقيهم ، وكانت مشاهدتها في منزل ما مدعاة لسؤال أهله ” إياك مافيهم حد حاس أبشي “…كان ” مطعم سندباد ” هذا يحظى بإقبال كبير ومتنوع لأسباب متعددة…فبعض رواده من مرتادي السوق المجاور كانوا يقبلون عليه لمشاهدة فيلم ” الرسالة ” … وهم مدفوعين برغبة جامحة لمشاهدة الصحابة رضوان الله عليهم كحمزة بن عبد المطلب وغيره… حيث كان -البعض- منهم كالأطفال تختلط في أذهانهم الحقيقة بالتمثيل ويتفاعلون مع أحداث ذلك الفيلم كأحداث حقيقية يشاهدونها أمامهم… فتتعالى صيحات التكبير والإعجاب كلما ظهر الممثل ” عبدالله غيث ” الذي كان يؤدي دور عم النبي صلى الله عليه وسلم ” حمزة بن عبدالمطلب ” …بل كان البعض ممن يجلسون في الأمام قرب الشاشة يبادرون بوضع أيديهم عليها كلما ظهر بغرض التبرك…وكان الحماس يشتد ببعضهم حين يهجم ” المسلمون ” على ” الكفار ” فتتعالى صيحاتهم في كل جوانب المطعم….وكأطفال رواد لذلك المطعم أنذاك كانت تجتذبنا تلك الأفلام خصوصا فيلم ” الرسالة ” و” عمر المختار ” وأفلام ” بريسلى “….وكانت لنا طقوسنا الخاصة…كان الواحد منا يشتري خبزة صغيرة (بيويلى Pain au lait) ب 10 أواق وأظنها كانت أرخص معروضاته من الأطعمةحينها…وأحيانا يستغرق وقتا لكي يحظى بمقعد شاغر..ويبدأ صراعا بين أمعائه الخاوية التي تحثه على قضم تلك الخبزة في ثواني ..ورغبته الشديدة في متابعة الفيلم المعروض تلك المتابعة التي لاتتأتى إلا بالإبقاء على ” وجبته ” تلك أطول فترة ممكنة ليظل في القاعة…كانت قوانين وأعراف المشرف على ذلك المطعم لاتعرف أنصاف الحلول مع أمثالنا…و كنا نحاول الالتفاف عليها ما أستطعنا إلى ذلك سبيلا ..كنا نُدًوِر أصابعنا على ” الخبزة ” ونرفعها لنوهمه أننا نأكلها…وهو مالم يكن ينطلي عليه دائما….بينما كان ذووا الخبرة منا لا يحتاجون أكثر من ” خبزة ” واحدة لمشاهدة فيلم كامل..والبعض الآخر خبزتين..وأحيانا ثلاثة أو أربعة….كان المشرف على المطعم يجلس غالبا منزويا في طرف المطعم ..يوجه نظراته -ككاميرات مراقبة- في كل اتجاه و كان من شبه المستحيل الإفلات من نظراته تلك..التي غالبا ماتنتهي بالواحد منا خارج باب المطعم مع بقية خبزته إن كانت بقيت منها بقية.لم تكن الردهة الخارجية لذلك المطعم أقل إثارة من قاعته الداخلية .. تلك الردهة الممتدة شرقا حيث توجد شركة ” كوماديس ” وغربا حيث ” مكتبة اگراليكوما ” ..ومحل la gazelle..ثم محلات اللبنانيين وبوابة المدرسة رقم 2 (حيث كنا ندرس) ودار أهل ” أفال مالك ” ب ” گدرتها ” الكبيرة ذات الماء البارد التي كنا كثيرا ما نأوي إليها إذا هدنا العطش ……
في هذه المنطقة المحاذية لمطعم ” سندباد ” كان يسرح ويمرح مجانين كثر بعضهم كان وفيا لتلك المنطقة بحيث لايفارقها أبدا مثل ” #بريسلى ” وهو شاب أبيض البشرة، قوي البنية أطلق عليه هذا اللقب أنذاك لشبهه الكبير ببطل أفلام ” الكينغ فو ” تلك الأيام ….
وكان شرسا خصوصا عندما يستفز من طرف الأطفال حيث يتفوه بكلمات غريبة وأحيانا يحطم ماحوله..وغالبا ما كان يرتدي بنطلونا وقميصا وكان جل الأطفال يخافونه..ولايقتربون منه إلا نادرا وكان يحظى بعطف بعض حراس المؤسسات الموجودة في ذلك المكان ..في الجهة الأخرى من ذلك الحي قرب مركز التكوين النسوي كانت توجد ” #مريم ضحايه ” وهي امرأة في عقدها الرابع أوالخامس كان يُخيل لها أنها رجل ولهذا كان يلقبها البعض ب ” الرجال ” وغالبا ماكانت ترتدي ملابس رجالية وتحمل سكينا وكانت تقيم بشكل دائم أمام بعض المحلات في تلك المنطقة …. ولكون هذه المنطقة تتوسط المدينة ، غالبا ماكان يوجد بها بشكل مؤقت بعض المجانين القادمين من مناطق أخرى بعيدة سبق وأن ذكرهم المدون المبدع اكس ولد اكس اكرك كمجانين زوار في تدوينة سابقة له عن مجانين ” لكصر ” مثل:#كومى : وهو شاب أسمر طويل القامة يتحدث إحدى اللهجات الإفريقية ..نادرا مايرتدي ملابس..وكان مسالما لايؤذي أحدا وغالبا مايتعرض لمضايقات الأطفال ..وكان يستقر به المقام أغلب الأحيان تحت شجرة بجوار حائط مدرستنا في المنطقة المقابلة حاليا لعمارة بنك B.N.Mوآخرون كثر لمعت أسماؤهم أنذاك ..مثل : سيكوت ، كابتين ….
( من سلسلة #نواكشوطيات – أحمد أبات )