«من القبيلة إلى الفيسبوك».. تحديات عصر التواصل الاجتماعي/ محمد المنى
بينما أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي متغيراً حيوياً ضمن آليات الحراك العام في مناطق عدة من العالم، وقد نجحت في الربط بسرعة هائلة وغير مسبوقة بين أناس في مختلف أرجاء المعمورة، جاعلةً من المجتمعات المتخيلة مجتمعاتٍ أكثر واقعيةً وأعلى قدرةً على إشعار «مواطنيها» بالحاجة لتأكيد مصالحهم المشتركة… بينما يحدث كل ذلك يصبح من الضروري دراسة الأثر المترتب على التطورات «المعلواتصالية» في مختلف المجالات، ومحاولة استشراف آفاق استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وتحليل ما يشير إليه تطورها المتسارع وما يثير ما تساؤلات، بغيةَ بناء فهم خلاق وفعال للتعامل مع هذه الظاهرة، في راهنها وفي أفق تحولاتها المستقبلية. وفي كتابه الصادر حديثاً، «وسائل التواصل الاجتماعي ودورها في التحولات المستقبلية: من القبيلة إلى الفيسبوك»، يفتح الدكتور جمال سند السويدي أفقاً طموحاً للبحث في هذه الظاهرة الجديدة، بما لها من تأثيرات كبيرة في الجوانب التربوية والسلوكية للجيل الجديد من الشباب عبر مختلف أنحاء العالم. كما ينفرد في هذا الكتاب بكونه يثير نقاشاً علمياً حول الأنماط المستقبلية لهذه الوسائل، وصولاً إلى وضع رؤى استشرافية حول حدود التأثيرات المتوقعة لها مستقبلا، فضلاً عن محاولة الرد على السؤال حول مسارات التفاعل في هذا المجال داخل معادلة المواطنين -الدول، واتجاهات العلاقة بين الطرفين.
والدكتور جمال سند السويدي أستاذ للعلوم السياسية، له بحوث ودراسات في القضايا المجتمعية والدولية ومسائل الأمن الاستراتيجي، وقد نُشرت بعض أعماله في كبريات الدوريات والمجلات العالمية، كما ألّف عدة كتب مثل «حرب اليمن 1994: الأسباب والنتائج»، «إيران والخليج: البحث عن الاستقرار»، علاوة على كتب أخرى شارك في تأليفها، بالعربية والإنجليزية، منها: «مجلس التعاون لدول الخليج العربية على مشارف القرن الحادي والعشرين»، و«مجتمع دولة الإمارات العربية المتحدة… نظرة مستقبلية»، «الديمقراطية والحرب والسلام في الشرق الأوسط»، «النفط والماء: التعاون الأمني في الخليج».
وفي رؤية استشرافية من المؤلف، يقول في مستهل كتابه الحالي، إن ما يتناوله من تطور دور وسائل التواصل الاجتماعي في المستقبل، وما ستفرضه من تغييرات على كثير من المسلمات الراهنة، سيصبح في الغد واقعاً معاشاً يلزم التعايش معه دون صدمة معرفية أو إشكالية في التعامل. فقد أرست التكنولوجيا الرقمية قواعد ثقافة إلكترونية عالمية، وتجلى الربط بين تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في ظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي أسهمت في تشكيل اتجاهات الرأي العام وبناء المواقف والآراء حيال مختلف القضايا والأحداث.
وللدلالة على سرعة التطور الحاصل في مجال التواصل الإلكتروني، يلفت الكاتب إلى أنه قبل سنوات قليلة لم يكن الكثيرون يتوقعون أن تصبح السلطة والقوة مرتبطتان بالوصول إلى المعلومات، وأن القدرة على استخدامها ستصبح محدداً للسيطرة على اتجاهات الرأي العام وتشكيل الآراء والمواقف، أو أن التنظيم الاجتماعي سيأخذ شكل الشبكات التي تسمح بتبادل الأفكار في المجالات المختلفة. لكن التطور في وسائل التواصل الاجتماعي دفع نحو التحول من القبيلة إلى الفيسبوك، بمعنى أنه إذا كانت القبيلة الواحدة تتكون من بطون وأفخاذ متفرقة وعصبيات متعددة، فذلك أيضاً ينطبق إلى حد كبير على منظومة وسائل التواصل الاجتماعي، فلكل مجموعة من الناس ترتبط بوسيلة تواصل اجتماعي معينة توجهات ورؤى واحدة كأنها عصبية قائمة بذاتها. لقد أصبحت «العصبيات الافتراضية» سمة من سمات البنية الاجتماعية الجديدة، حيث أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل قبائل من نوع جديد تضم كيانات وعائلات يربطها العالم الافتراضي، ومن ثم انتقل الفرد من روابط القبيلة إلى روابط الفيسبوك، وجرى تغيير ثنائية «العصبية القبلية» إلى ثلاثية العصبية الافتراضية المشتركة، وقوة رابطة وسيلة التواصل الاجتماعي، والشعور بوحدة الأهداف والمصالح. وإذا كانت العصبية هي أساس قوة القبيلة والدافع لتغليب المصلحة القبلية على المصلحة الوطنية، أو المصلحة العامة، فكذلك هو حال «العصبية الافتراضية» التي تمثل عماد قوة وسائل التواصل الاجتماعي.
يتصف عصر التواصل الاجتماعي التقني الذي يعيشه العالم حالياً بانتشار «الشعور بالذاتية»، وبقدرة الفرد على التأثير في عالم مفتوح، من خلال وسائل تعبير منخفضة التكلفة وواسعة الانتشار، كما يتسم بالتنوع «اللامتناهي» في الرسائل الإعلامية والمحتوى الإعلامي… ما يجشع الفرد على الاتصال بالعالم الخارجي وبناء منظومته التفاعلية، والدخول في روابط عابرة للحدود. فوسائل التواصل الاجتماعي تسهم في تسهيل التعارف والتواصل بين البشر، وتمكين الأفراد من طرح آرائهم وأفكارهم دون أي وصاية، وهي تمثل ملاذاً للأقليات التي تحاول الاستفادة من هذا الفراغ الافتراضي، فضلاً عن دورها في نشر الوعي وتسهيل تداول المعلومات والأفكار. وبشكل عام فقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي «منبر من لا منبر له»، فكل من يعجز عن اعتلاء أي منبر إعلامي، يستطيع بث ما يريد من رسائل ليستقبلها متابعو وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت المستخدم «مراسلاً إعلامياً»، سواء في نقل الأخبار والصور الفورية من مكان الحدث، أو في التعبير عن مواقفه تجاه الأحداث الجارية. وكما يوضح المؤلف، فإن الخصائص المميزة لعصر التواصل الاجتماعي التقني، أسهمت في إحداث تغييرات بنيوية؛ بما في ذلك إيجاد علاقة طردية بين حرية الأفراد وبين استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، لدور الأخيرة في رفع الوعي السياسي بصورة غير مسبوقة، ولأثرها الواضح في تشجيع الناس على المشاركة السياسية، وفي زيادة دور المؤسسات الإقليمية والدولية في تشجيع الأفراد على المشاركة في صنع السياسات العامة لبلدانهم، فضلاً عن إسهامها في زيادة قوة المجتمع المدني وقدرته على تخطي القيود والموانع.
ويتطرق المؤلف إلى أهم وسائل التواصل الاجتماعي، وفق المؤشرات الإحصائية حول عدد المستخدمين والقراء، فيذكر أن هناك خمسة مواقع عالمية تعتبر الأكثر شهرة ونمواً في عدد المستخدمين، يتصدرها موقع فيسبوك، وهو موقع التواصل الاجتماعي الأكثر شهرة منذ ظهوره عام 2003، يليه تويتر، وهو موقع التدوين المتناهي الصغر، وقد انطلق في عام 2006، ثم موقع «جوجل بلس» الذي دشنته شركة جوجل العالمية في عام 2011، أما الموقع الرابع فهو «لينكدإن» الذي بدأ في مايو 2003، وأخيراً موقع «بنترست» الذي ظهر في عام 2010. وهي المواقع الخمسة الأعلى نمواً، من حيث عدد المستخدمين النشطين خلال عام 2012، إذ تظهر أرقام الربعين الثاني والرابع من العام الماضي أن موقع «تويتر» كان الأكثر نمواً (بنسبة 40 في المئة)، يليه موقع فيسبوك (33 في المئة)، فموقع جوجل بلس (27 في المئة)، ثم موقع «لينكدإن» (21 في المئة)، وأخيراً موقع «بنترست» (13 في المئة).
وحول عدد مستخدمي موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» في العالم العربي، تشير الإحصائيات إلى أن عددهم بلغ 46.4 مليون مستخدم في فبراير 2013. أما من حيث توزعهم إقليمياً، فقد جاءت مصر في المقدمة بنحو 12.5 مليون مستخدم، تلتها السعودية بنحو5.7 مليون مستخدم، ثم المغرب (5.2 مليون مستخدم)، فالجزائر (4.3 مليون مستخدم)، فتونس ودولة الإمارات العربية المتحدة بنحو 3.4 مليون مستخدم لكل منهما.
وكمثال على الدول العربية الأكثر نشاطاً في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، يذكر المؤلف أن دولة الإمارات العربية المتحدة تأتي في المركز الأول عربياً في نسبة مستخدمي موقع فيسبوك، وذلك بنسبة 41.2 في المئة من السكان، كما تأتي الأولى أيضاً فيما يخص استخدام موقع «لينكدإن»، وذلك بنسبة 14.8 في المئة من السكان.
«الحشود الجماهيرية» الإلكترونية
يرصد الكتاب أهم التأثيرات التي أفرزتها وتفرزها وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك للوقوف على مدى أهمية هذه الوسائل وحدود تأثيرها في توجيه الرأي العام وتشكيل القناعات والاتجاهات لدى الشرائح العمرية للمستخدمين. ويذكر أن ظهور المطبعة والصحيفة غيّر طبيعة النقاش السياسي، ثم أتاح الراديو والتلفاز، في وقت لاحق، للقادة السياسيين إمكانية التحدث بشكل مباشر إلى الجمهور، وعلى نحو مماثل تحدث مواقع التواصل الاجتماعي تأثيرات كبيرة في المجال السياسي؛ فللمرة الأولى أصبح بإمكان السياسيين متابعة ردود الأفعال الفورية على قراراتهم ومشاهدة استطلاعات الرأي الآنية حول تصريحاتهم، وبات الاقتراع في الانتخابات متاحاً عبر الإنترنت، والتي أثبتت أنها وسيلة تغيير أكثر فاعلية من بقية الوسائل الإعلامية الأخرى، إذ من شأنها إيجاد بيئة فكرية تفتح المجال أمام التغيير وتوليد الضغوط السياسية، فهي نفسها ذات طبيعة ديمقراطية قادرة على تحقيق المشاركة الشعبية.
وإلى ذلك، يسجل الكتاب تأثيراً سياسياً آخر لوسائل التواصل الاجتماعي، ألا وهو تنامي عدوى التغيير وتنقلها عبر الحدود الجغرافية، ومن ذلك تأثير التغيير في تونس على الوضع الداخلي في دول عربية أخرى، مثل مصر وليبيا واليمن، حيث استفاد الشباب المصري عبر وسائل التواصل الاجتماعي من تجارب نظيره التونسي، كما لاحظنا كيف ترددت الشعارات ذاتها في ميادين عربية عدة بفعل لقطات مصورة تبادلها مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي، وتناقلتها شبكات التلفزة الفضائية. كما وفّرت مواقع التواصل الاجتماعي لحركات المعارضة فضاءً رحباً لنشر أفكارها والترويج لمواقفها.
وبشكل عام يمكن القول، كما يؤكد المؤلف، إن وسائل التواصل الاجتماعي باتت بمنزلة القوة المجتمعية الضاغطة، لمصلحة مخططي السياسات وصانعي القرارات أو ضدهم، إذ بمقدور هذه الوسائل تعبئة «الحشود الجماهيرية» الإلكترونية الهائلة، تأييداً أو معارضة، وبالتالي فقد أصبحت لاعباً رئيسياًَ في المعادلات السياسية داخل الدول وخارجها.
المرغوب والمرهوب
وفي معرض تناوله التأثيرات الاجتماعية لوسائل التواصل الاجتماعي، يوضح الدكتور السويدي أن تلك الوسائل جعلت سلطة الفرد تزداد باضطراد، لتضعف قوة العلاقات الاجتماعية التقليدية لمصلحة العلاقات الافتراضية، إذ استطاعت وسائل التواصل الاجتماعي إنشاء «مجتمع افتراضي» حي وتفاعلي، يتشابه في كثير من سماته مع المجتمع الواقعي، كما أصبحت حياة الفرد تتحول تدريجياً لتكون قائمة على «التواصل الإلكتروني»، وتكوين «الأسرة الافتراضية»، ضمن «المجتمع الافتراضي»، وهي علاقات جديدة أدت إلى نوع من «عولمة» القيم والمبادئ.
ومن هذه التأثيرات ما طال العملية التعليمية أيضاً وسائر مكونات المنظومة التربوية، خاصةً في مجال التعليم العام والجامعي، وما شهده من تغير في أسلوب تلقي المعلومة، واختبار مدى الاستيعاب.
ومن التأثيرات أيضاً ما يشمل اللغة، ذلك أن حالة التحول العالمية نحو الخيار الرقمي تسهم بالضرورة في تشكيل مستقبل اللغات. وقد عبّر بعض الباحثين عن قلقهم فعلياً من أن تواجه اللغة العربية الفصحى، في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، مصيرَ اللغة اللاتينية، حيث يمكن أن تبقى كلغة مكتوبة تعيش مفرداتها وقواعدها إلى الأبد، لكنها في الوقت ذاتها تبقى خارج الاستعمال.
وإلى ذلك، يذكر المؤلف تأثيرات أخرى، حادثة أو متوقعة، مرغوبة أو مرهوبة، ومنها على سبيل المثال: إلكترونية العلاقات والروابط الاجتماعية، التفكك الاجتماعي أو مفارقة «التقارب بين المتباعدين وإبعاد المتقاربين»، ضعف الروابط الأسرية أو تراجع العلاقات الفعلية بين أعضاء الأسرة وظهور «أرامل الإنترنت»، ضعف تأثير الأسرة في سلوك الأبناء، الانتقال من المطلق في الحياة العامة إلى النسبي في الحياة الافتراضية، تراجع التفكير الإبداعي وفقدان الرغبة في التغيير الذاتي، الانفصال عن الواقع والعيش في العالم الافتراضي، تعزز قيم الفردية وتراجع قيم المجتمع والنمو الاجتماعي… هذا عدا عن تأثيرين آخرين هما كسر عزلة المسنين، والتمكين المعرفي للمرأة.
أعمال وإشهار
وفيما يخص التأثيرات الاقتصادية لوسائل التواصل الاجتماعي، يقول المؤلف موضحاً الأهمية المتزايدة لهذه الوسائل في سلوك الفاعلين الاقتصاديين وقراراتهم، إن معظم الشركات أصبحت تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي للدعاية والتسويق والوصول للعملاء المحتملين، ثم يشرح أهم التأثيرات الاقتصادية لوسائل التواصل الاجتماعي: التوجه نحو اقتصاد المعرفة على حساب اقتصاد السلع والخدمات، التحول نحو الاقتصاد الافتراضي أو الاقتصاد الموازي للوضع الواقعي للاقتصاد، تغير وسائل الترويج لمصلحة مواقع التواصل الاجتماعي، تبدّل اعتمادية التجارة، حيث أصبح المستهلك شريكاً فاعلاً في تحديد مواصفات السلع المطلوبة، وانتشار السلع العابرة للحدود بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، والتعامل مع العملاء والمستهلكين والمستثمرين، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
وأمام الدور المتزايد لهذه الوسائل في عالم الاقتصاد والأعمال، يذكر المؤلف أن نحو 94 في المئة من جميع الأعمال التي لديها إدارة تسويق، تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي كجزء من منصاتها الترويجية، وأن نحو 85 في المئة من الأعمال التي لديها منصة ترويجية في وسائل التواصل الاجتماعي، شهدت زيادة في التعرف إليها بالسوق.
تحديات أمنية
ورغم أهمية الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في نشر الوعي الثقافي، وتطوير الواقع الاقتصادي للأفراد والشركات والدول، فإن الباحثين يدركون مدى الارتباط بينها وبين انتشار ظواهر أمنية سلبية، مثل الإرهاب والتطرف. وفي هذا الخصوص يلاحظ المؤلف أن بعض المجموعات التي تتخذ من وسائل التواصل الاجتماعي ساحة للتشاور والحوار، تفضل الإبقاء على مجتمعاتها الافتراضية مغلقةً نسبياً، بينما تفضل مجموعات أخرى إقامة دول افتراضية ذات منطلقات عنيفة أو متطرفة. ولهذا ليس من الغريب أن يواصل تنظيم «القاعدة» عبر آلاف المواقع الإلكترونية، وضمنها مواقع التواصل الاجتماعي، توسيع حضوره العالمي، رغم محدودية الأراضي الملموسة التي يقف ويتحرك عليها.
وإذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي قد أتاحت التواصل الحضاري والإنساني، فإنها- يقول المؤلف- قد أفرزت في المقابل العديد من السلبيات، إذ أسهمت في «عولمة الجريمة»، وارتبطت بالعديد من جرائم المعلومات؛ مثل انتحال الشخصية، والذم والتشهير والتحقير عبر الإنترنت، والنصب والاحتيال والقرصنة، وانتهاك المعلومات الشخصية الإلكترونية، والتحرش والمضايقة عبر برامج المحادثة والمدونات الشخصية، والاعتداء على الخصوصية، وجرائم التحريض، وإثارة الفتن الدينية والعرقية.
لكن، وكما يؤكد المؤلف، فإن الحكومات باتت تعي أهمية وسائل التواصل الاجتماعي، وتأثيرها في الأمن الاجتماعي والاستقرار الداخلي، لذلك بدأت إرهاصات «صراع افتراضي» جديد، ساحته شبكة الإنترنت، وأدواته وسائل التواصل الاجتماعي، وأطرافه الدول والمواطنون، ما جعل «البعد الإلكتروني» و«السيادة الافتراضية» ركيزتين حيويتين ضمن منظومة الأمن القومي للدول. وهكذا فالتأثير الأمني لوسائل التواصل الاجتماعي، كما يوضح الكتاب، لا يصب في الجانب السلبي فقط، بل إن بعض الأجهزة الأمنية انتبهت إلى الأهمية المتزايدة لهذه الوسائل، ووظّفتها في تحسين الأداء الأمني، وقد سعت أجهزة الأمن والاستخبارات في دول مجلس التعاون الخليجي لبحث الموقف من «هجمة وسائل التواصل الاجتماعي»، وهي اليوم في تعاون وتنسيق تامين لمواجهة التحديات الأمنية الإلكترونية.
وفيما يخص تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في الشؤون العسكرية، يقول المؤلف إن لهذه الوسائل تأثيرات عدة على طبيعة المؤسسة العسكرية، وعلاقاتها بالبيئة المجتمعية المحيطة؛ خاصة في خوض حروب المعلومات، وفي مكافحة الإشاعات، وتبادل المعلومات المشفرة، وتحديد أماكن وجود الأشخاص، والتواصل بين أفراد المؤسسة العسكرية، والتواصل مع الجماهير خلال الكوارث والأزمات، وكسب الدعم الشعبي وبناء قنوات اتصال فاعلة.
من جمهور إلى آخر
ويتناول الكتاب التأثيرات الإعلامية لوسائل التواصل الاجتماعي، ويسجل أن استخدام هذه الوسائل قد ضاعف بشكل هائل أعداد قادة الرأي المشاركين في تشكيل القناعات وتوجيه الرأي العام، ما يثير التساؤل حول مصير النمط الإعلامي الرسمي، وحول إمكانية إسهام الوسائل الجديدة في بناء مشتركات بين قطاعات عريضة من الجمهور. وفي هذا الصدد يتوقع المؤلف أن يكون المستقبل لمصلحة «الإعلام الشخصي»، حيث سيكون بإمكان كل من يستخدم وسيلة أو أكثر من وسائل التواصل الاجتماعي أن يمثل قناة إعلامية مرئية أو مسموعة أو مقروءة، كما سيتسم إعلام المستقبل بمزيد من التفاعلية والمشاركة والتكامل، وسوف تنتشر «وكالات الأنباء الفردية والخاصة»، وسوف يزداد انتشار الكتاب الإلكتروني.
وفيما يخص آفاق العلاقة بين الإعلام التقليدي ووسائل التواصل الاجتماعي، يرى الدكتور السويدي أن هذه العلاقة في مرحلتها الراهنة على الأقل، تبدو علاقة تشارك وتكامل، وهو ما لا ينطبق بالضرورة على المستقبل، لاسيما أن وسائل التواصل الاجتماعي قد أحدثت انقلاباً جذرياً في مفهوم الإعلام ذاته، فبعد أن كانت الرسالة الإعلامية موجهة من «مرسل مؤسساتي» إلى «جمهور المتلقين»، صارت تدريجياً تتوجه من جمهور إلى آخر، وهو اتجاه يهدد صناعة الإعلام التقليدي وينذرها بالخطر.
غموض قانوني
ويتطرق الكتاب إلى الشق القانوني في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، قائلا إن هذه الوسائل أفرزت العديد من الإشكاليات القانونية الناجمة عن سوء الاستخدام، خاصة إشكالية تحديد المسؤولية الجنائية عن جرائم النشر الإلكتروني التي ترتكب عبر صفحات التواصل الاجتماعي؛ إذ يصعب تمييز المسؤولية القانونية لوسيلة التواصل الاجتماعي عن مسؤولية صاحب المحتوى. وعموماً فإن القواعد القانونية المنظمة لاستخدام شبكة الإنترنت ما زالت غير واضحة بشكل دقيق حتى الآن. ورغم القوانين التي استحدثت في مختلف الدول لتنظيم المحتوى الإلكتروني، فإن المحاولات الرامية إلى تقنين المجتمع الافتراضي، متضمناً وسائل التواصل الاجتماعي لا تزال جزئية وغامضة.
عشائر إلكترونية
وفي توقعاته المستقبلية حول وسائل التواصل الاجتماعي، يرى الدكتور السويدي أن هذه الوسائل ستمضي في مسارها وتكريس موقعها الذي شغلته باعتبارها السلطة الخامسة التي أزاحت تدريجياً السلطة الرابعة (الصحافة) التي شغلت هذا الموقع طوال القرنين التاسع عشر والعشرين. ففي ظل الطفرة المتوقعة للحواسيب، وما تشير إليه التوقعات من أن عدد سكان العالم سيبلغ في عام 2026 نحو ثمانية مليارات نسمة، يتوقع الكاتب أن نصبح بصدد مليارات الشخصيات الوهمية والهويات الافتراضية، الأمر الذي يطرح إشكالية اجتماعية شائكة تتعلق بالأثر المترتب على تذويب مجمل هذه الهويات الشخصية وتفكيكها. وفي هذه الجزئية يتعرض المؤلف لنظرية «الاستعمار الإلكتروني» لتوماس ماكفيل، والتي يرى فيها أن ثورة المعلومات تجعلنا نبدو كما لو كنا نتحرك إلى التمدين من القبيلة، أي التحول «من القبيلة إلى الفيسبوك»؛ فالقبيلة تضم جماعة من الناس تنتمي في الغالب إلى نسب واحد وتتكون من بطون وعشائر عدة، وغالباً ما يسكن أفرادها إقليماً مشتركاً، ويتحدثون لهجة مميزة، ولهم ثقافة متجانسة وتضامن يدعى «العصبية»، وهذا هو الحال أيضاً في الفيسبوك، فهو يضم شبكات مختلفة لكل منها سماتها وأنظمتها وتقاليدها في الفضاء الإلكتروني داخل وسيلة التواصل الاجتماعي.
محمد المنى