يوميات صائم: “أهل الذكر” في القرآن ليسوا العلماء/ محمد رياض العشيري
ليس في الإسلام كهنوت، وليس فيه وساطة بين العباد وربهم. وليس فيه طبقة “رجال دين” يمتازون من غيرهم، فالطريق إلى الله تعالى – عبادة وتقربا – سبيل مفتوحة أمام المسلمين جميعا. وأبواب الدعاء والتوبة والمغفرة والإياب مُشرعة أمام كل منيب.
ولم يستخدم القرآن الكريم تعبير “رجال الدين”، أو “علماء الدين”. لكنه حث المسلمين على “التفقه في الدين”، كما أشرت في يومية سابقة.
وقد وردت كلمة “العلماء” في القرآن مرتين، مضافة في الأولى إلى بني إسرائيل:
“أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ” (الشعراء:١٩٧)
إشارة إلى أن القرآن ورد ذكره في كتب الأولين، ويعلم ذلك علماء بني إسرائيل، وإن أنكروا.
أما الثانية فجاءت مطلقة الدلالة:
“وَمِن النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ”(فاطر:٢٨)
والكلمة وردت هنا في سياق تدبر آيات الله في اختلاف ألوان الثمر، وإن كان يسقى بماء واحد، واختلاف ألوان الجبال، واختلاف ألوان البشر والدواب كذلك، مما قد لا يدركه إلا من درس وتبحر في العلوم.
لكن بعض المفسرين أبى إلا أن يقحم “العلماء” – بحسب المفهوم الديني للكلمة – في تفسيرهم لتعبير “أهل الذكر”، الذي ورد مرتين في القرآن الكريم.
الأولى:
“وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ” (النحل:٤٣)
والثانية:
“وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ” (الأنبياء:٧)
وذهب بعض المفسرين، مثل ابن كثير، إلى أن المقصود هم اليهود والنصارى “أي: اسألوا أهل العلم من الأمم؛كاليهود والنصارى وسائر الطوائف”.
أما الطبري فلم يكن قوله قاطعا. إذ يقول بأنهم “أهل القرآن”، وفي إشارة أخرى بأنهم “أهل البيت”.
“فـاسألوا أهل الكتب من التوراة والإنـجيـل … وقـيـل: أهلُ الذكر: أهلُ القرآن … حدثنـي أحمد بن مـحمد الطوسيّ … لـمانزلت: (فـاسْأَلُوا أهْلَ الذّكْرِ إنْ كُنْتُـمْ لا تَعْلَـمُونَ) قال علـيّ: نـحن أهل الذِّكر.”
وهذا الرأي الأخير هو ما تقول به الشيعة:
“أقوال هؤلاء العلماء كلها أوجلها تؤكد على أن المراد من الآية هم( أهل البيت) ((ع))…والشيعة قديما وحديثا يستدلون بهذه الآية…على أن المراد منها هم أهل بيت النبي (ص) لا غيرهم لأنهم معصومون، وعندهم علم كل شيء من الله تعالى وفيهم وصية الرسول محمد (ص) … فكيف يأتي اليوم فقهاء آخر الزمان ويحملوها على مطلق العلماء ولا يخصوها بالعترة الطاهرة (ع). (موقع مدرسة وحسينية أنصار الإمام المهدي)
وأصبحت آيتا “أهل الذكر” تترددان في أحاديث وخطب كثيرة في وسائل الإعلام باعتبارهما إشارة قرآنية إلى “العلماء” أو “علماء الأمة”، دون أن يذكر المراد القرآني منها، وهو أنهم “أهل الكتاب”.
ويتذرع بعض المفسرين بأن “الذكر” من أسماء القرآن، ولذلك فـ”أهل الذكر” هم أهل القرآن. بيد أن “الذكر” ليس مقصورا في القرآن على الكتاب الذي أنزل على نبينا الكريم فحسب، بل يشير أيضا إلى التوراة:
“وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ” (الأنبياء:١٠٥)
لكن الأمر الأشد خطورة حقا هو فتح باب قاعدة من قواعد أصول الفقه تقول إن “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”. فإذا كانت آيتا “أهل الذكر” تشيران أصلا إلى “أهل الكتاب”، فإنهما من حيث “عموم اللفظ” يمكن استخدامهما للإشارة إلى كل من لديه علم. وهذا بعينه ما ورد في موقع (إسلام ويب)، عند التعرض للآيتين الكريمتين:
”وأهل الذكر هنا هم: أهل الكتاب من الأمم السابقة الذين بعث الله إليهم الرسل، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كماهو مقرر في أصول الفقه، ولهذا قال ابن عطية: وأهل الذكر عام في كل من يعزى إليه علم. فأهل الذكر هم أهل الاختصاص في كل فن…“ (إسلام ويب)
ومن هذا الباب يدخل من يشاء ممن درس أو حفظ القرآن الكريم أو بعضه، أو درس وحفظ متنا من هنا أو هناك، أو فتحت أمامه مصاريع قنوات فضائية لا رقيب على محتواها.
ومن هذا الباب يأتينا التشدد الذي مازلنا نعاني منه، لأنه أصلا يعشش في كثير من صفحات المتون الفقهية القديمة التي ربما واءمت عصورها وبيئاتها، لكنها لم تعد مناسبة لنا، وينبغي لنا غربلتها بحكمة وحنكة لنأخذ منها ما ينفع الناس ونطرح غيره.
ومن هذا الباب أيضا تكونت لدينا طبقة كهنوت تريد الحفاظ على سلطانها بشتى السبل، حتى وإن افتأتت بآرائها على القرآن ذاته.