خطاب المال والسلطة بالمغرب بدعة الفاشلين للإقصاء السياسي
4 يوليو 2018، 00:45 صباحًا
خطاب يتم الترويج له مؤخرا في المغرب بقوة، مفاده تخويف الجماهير من السياسي الذي يجمع بين الثروة وبين الرغبة في المشاركة في تدبير الشأن العام حتى لا نقول الرغبة في ممارسة السلطة. خطاب مصدره الحزب الإسلامي المغربي وبعض ما اليسار، خطاب يحتاج إلى تعليق والى نظر.
الخوف من المنافسة السياسية بين الخصوم يقود أحيانا كثيرة إلى البحث عن حيثيات شكلية، أولية للإقصاء من الولوج إلى معترك الصراع. تلك حجة الضعفاء غير القادرين على إنتاج لغة المواجهة الحقيقية المبنية على الأطروحات السياسية والأفكار.
ما حيلة الفاشلين في صناعة التصورات أو في فنون الحرب السياسية سوى بناء دفوعات شكلية وبناء شروط غير مسبوقة في الولوج إلى صفة منافس سياسي؟ خطاب رفض الجمع بين الثراء وممارسة السياسة وبالتالي بين المال وبين إنتاج أو امتلاك حصص في رأسمال السلطة هو أحد هذه الدفوعات الإقصائية غير المعهودة في طقوس وقواعد اللعبة الديمقراطية.
السياسي بطبيعته يوظف جميع أنواع الأرصدة المادية وغير المادية في اختراق البناءات الاجتماعية. السياسي جوهر عمله هو إتقان استعمال الأدوات المتاحة أمامه لكسب رضى الجماعة ومن تم التسيد عليها. قد نجد أنفسنا أمام ثنائيات كثيرة في السياسة. الفن والسياسة، الرياضة والسياسة، العلم والسياسة، الدين والسياسة، الأعمال والمال والسياسة، أو ربما حتى الرقص والسياسة، إذا اقتضى تسويق المنتوج السياسي ذلك. كلها رساميل رمزية كانت أو مادية لا يتردد السياسي في استعمالها عبر قنوات تواصله المتعددة، للتأثير على متلقي ومستقبل الرسالة.
القرار السياسي يلفه الغموض أحيانا كثيرة. قد يخفق المال في التأثير فيه وقد يؤثر فيه مجرد مزاج شخصي عابر لصاحب القرار. الإشكال الحقيقي لايقبع في امتلاك الأموال ودخول غمار السياسة والسلطة، بل يكمن بالأساس في ضخ المال في دورة حياة السياسة، وأيضا في طريقة تدبير العلاقة بينهما عن طريق البحث عن أشكال رقابة الرابط بينهما وعن وآليات ضبطها ومجازاتها.
عبر تاريخ نشأة الفكر والممارسة الديمقراطية، وعبر جميع مراحل تطور السلطة والدولة لم يكن صاحب المال بعيدا عن تحديد قواعد اللعب المنشأ لقيم السلطة داخل الجماعات البشرية. منذ البناءات الأولى لتنظيم شكل الدولة عند الاغريق واليونان كانت أهم مميزات ومعايير الحصول على صفة مواطن في مواجهة “العبيد” واكتساب مؤهل المشاركة في القرار هو المساهمة في حياة المدينة، عن طريق أداء الضرائب. كل يحوز نصيبا وحصة من المشاركة حسب مساهماته المادية في حياة وبقاء الجماعة. لا يمكن أن يتساوى من ينتج للحياة ومن لا ينتج.
في بدايات الإسلام لم يكن أصحاب المال من التجار أساسا بعيدون عن عملية بناء الدولة. نماذج كثيرة أمثال عثمان بن عفان أو عبد الرحمان بن عوف، أو غيرهما، كانت مشاركاتهم في الفتوحات والغزوات وفي توفير وسائل حياة المدينة الناشئة، كبيرة بأموالهم وبعلاقاتهم التجارية. أحيانا كثيرة كانت تدخلاتهم المادية حاسمة في تجهيز الجيوش أو في تحقيق التوازن بين حاجة الفقراء وبين الاستقرار العام. أيضا في آيات كثيرة نرى ربطا وثيقا بين القدرة على الإنفاق وعلى الإطعام وبين الأمن السياسي العام للجماعة. ” أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” الآية، تسبيق الإطعام على الأمن وربطه به. “وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذا مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة” الآية فيها ارتباط بين التحرير السياسي والإنفاق للإطعام؛ ” لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل،أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا”، الآية تميز بين المنفقين في الحياة العامة في مرحلة البناء لخلق الأمن والاستقرار على أولئك الذين ينفقون بعد البناء والتأسيس والفتح أي في مرحلة الرخاء والاستقرار والأمن.
ثم في قصة يوسف عليه السلام الوصفة التي أعطاها لجماعة المصريين هي وصفة غذائية اقتصادية بامتياز مرتبطة بالزراعة أساسا حسب تقاليد الإنتاج في مصر آنذاك. ثم في الحديث النبوي عن شروط الصحبة الطيبة عندما وضع النبي عليه الصلاة والسلام التعامل بالمال إحدى معايير المرافقة الطيبة “هل عاملته بالدرهم والدينار”، الحديث النبوي.
المحصلة أن القدرات المادية والمالية ضرورية للبقاء، ولا يمكن أن تساس أمور الجماعة بدون فكر اقتصادي وممارسات ملموسة وناججة في إدارة المال والثروة. ماعدا ذلك سنصبح أمام هواة لم يسبق لهم أن خبروا طرق النجاح في إنتاج الثروة ومشاركة أجزاء منها ومن خبرة تدبيرها مع باقي الجماعة فما بالك بإدارة ثروات البلاد ككل.
أمثلة أخرى كثيرة في الديمقراطيات الغربية مهد حقوق الإنسان والحداثة. هذه الولايات المتحدة الأمريكية، قبلة عشاق التحرر والديمقراطية والحداثة، رؤساؤها عدد منهم جمعوا بين الأعمال والثروة وممارسة السلطة. وهذا دونالد ترامب آخر نماذجهم الحية. هذه إيطاليا برلوسكوني الذي جمع بين ممارسة السياسة والسلطة والمال إلى جانب عدد كبير من كبار رجال الأعمال، بل منهم من وصف برلوسكوني بالامبراطور بسبب حجم ثروته وتنوع مجالات توزيعها. وهذه كبريات الشركات في الغرب تساهم في اتخاذ القرارات السياسية بل والاستراتيجية الدولية احيانا كثيرة.
في المغرب لم يكن المال بعيدا أبدا عن السلطة بل كان أحد اعمدتها وأذرعها وأحد مجالاتها الحيوية، من خلال الاستثمارات عن طريق المخزن الاقتصادي لضمان بقاء الدولة واستقلاليتها عن صراعات أهواء الاقتصاد التي قد تشل البلاد في حال تصادم مصالح الأغنياء.
السلطة في المغرب لاتمارسها مؤسسة واحدة ولاتنتجها جهة واحدة، بل هي جدليات متعددة تفرز النمط الموجود حاليا. فلا يمكن أن نقول أن رئاسة الحكومة هي من تنتج السلطة بشكل مطلق ولا البرلمان ولا حتى المؤسسة الملكية نفسها جوهر السلطة السياسية في البلاد. هناك حلقات ودوائر تتدافع كل حسب حجمها الاجتماعي والرمزي. في هذا السياق عن أي تخوف يتحدث رواد الخطاب الشعبوي الذين يخوفون الناس من قصة الجمع بين الثروة والمساهمة في إنتاج السلطة؟
الخطاب الذي كان من المفروض أن يتم التعبئة له، هو منع استعمال المال في السياسة وتحديدا في فترات الانتخابات. الخطاب الذي نحتاجه اليوم في المغرب هو تشجيع “البورجوازية المغربية”، التي بدأت تتأسس وتظهر بوادر نشأتها مع دخولها إلى الممارسة المتنوعة داخل الفضاء العام للدولة والمجتمع. الخطاب السياسي يتعين فيه تشجيع هذه البورجوازية الناشئة سياسيا على الكشف عن نفسها بشكل واضح، والسعي إلى التوافق معها على بناء المغرب وعلى بناء مساحات مصالح واضحة بين المجتمع والدولة والبورجوازية.
الاستفادة من قراءات التاريخ مهمة جدا في هذا الصدد. البورجوازية هي من بنت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، هي من ساعدت المجتمع الغربي على بناء نفسه من جديد في كل المجالات، في العمران، الصناعة، الشغل وضماناته الاجتماعية، في الفنون والإعلام والثقافة وحقوق الإنسان، في العلوم والتعليم والصحة وغيرها.
الرهان الحقيقي هو مساعدة هذه البورجوازية على بناء مواقفها تجاه الدولة والمجتمع وتجاه الثقافة والسياسة. لأنه في آخر المطاف، محاربة هذه الفئة واقصاؤها سيضعنا في مواجهة تطرف بعضنا البعض، سيجعل المجتمع والدولة ساحة لمواجهة الفاشلين فيما بينهم، ويضعنا تحت إشراف هواة سياسة واقتصاد وإدارة، بدون امتلاك أي تصورات وتجارب عملية لبناء مجتمع المعرفة والإنتاج.
المجتمع بحاجة إلى المال المستنير من أجل التطور ومن أجل صراع إجتماعي طبيعي يفرز المتفوق طبيعيا بدون تدخلات قيصرية. أما عملية الاندفاع في خطاب شعبوي مهزوم غير منتج، يسعى بشكل عدمي لمحاربة أصحاب المال بدون تمييز بين المفيد والضار، فهو خطاب نفسي إقصائي، متناقض مع مزاعم التمتع بالثقافة الديمقراطية لإزاحة طرف بشكل غير مبرر، اللهم إلا إذا كان هذا الخطاب في سبيل فتح المجال أمام تجار وتبضع من نوع آخر.