في أمستردام.. مهاجرون فضحوا القاعدين والمُقعدين/ دكتور محيي الدين عميمور
10 نوفمبر 2024، 11:57 صباحًا
الوقفة الأولى
هناك تعبيرات أصبحت جزءا من التاريخ لمن يدركون معنى التاريخ والتأريخ.
ففي منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي قال الإمام الجزائري الشيخ البشير الإبراهيمي عن استعمار الجزائر: “إن ما انتزع اغتصابا لا يُسترد إلاّ ِغِلابا”، وهو ما كرره الرئيس المصري جمال عبد الناصر بعد عدة عقود بكلمات مماثلة تقول :ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة.
وفي الستينيات قال الرئيس الجزائري هواري بو مدين إن القضية الفلسطينية هي الاسمنت الذي يحقق الوحدة العربية لكنها قد تكون المفجر الذي ينسفها تماما.
وتأتي أحداث “أمستردام” بالأمس لتؤكد هذه المقولة.
فبرغم الفتور السياسي بين المغرب والجزائر فإن المهاجرين الجزائريين والمغاربة في هولندا تكاتفوا معا لتلقين عناصر الكيان الصهيوني درسا لن يُنسى، وستكون له تداعيات أكثر أهمية من نفاق الملك ورئيس وزرائه، اللذين كانا مجرد تجسيد لعقدة ذنب السلطات الحاكمة في الشمال تجاه اليهود، حيث كانوا هُم وأسلافهم من نكّل بهم طوال عقود وعقود.
وكان من ألطف ما سمعته تعليق جاء في”التيك توك” لمواطن مصري يعيش في المهجر وشهد ما حدث، قال موجها حديثه لأقرانه: إذا أحس أحدكم بخطر اعتداء بعضهم عليه فليلتصق بالجزائريين والمغاربة لأنهم رجال.
وأهمية ما حدث، وبعد سقوط هاريس كامالا (وليس فيها من الكمال شيئ) هو أنه كان رسالة واضحة للمهاجرين العرب والمسلمين في أوروبا والأمريكيتين بأن وحدتهم هي سبيل احترام الآخر لهم، وهي أهم ضمان لحماية مصالحهم بل ولوجودهم.
وشكرا لمهاجري المغرب العربي الذين أثبتوا أن الذباب الإلكتروني لا يتحكم فيهم، وسحقا للقيادات الغربية التي لم تتخلص بعدُ من عقدة ذنب كانت هي من ارتكبه، ويدفع الوطن العربي ثمنه اليوم، وسحقا مضاعفا للقيادات العربية والإسلامية.
* – الوقفة الثانية:
تساءل كثيرون عن محمد بن صدوق، الذي كنت ذكرتُ اسمه في حديث سابق، وأحسست بأن من واجبي أن أعرّف بهذا المجاهد الذي يعيش الآن كمواطن عاديّ تجاوز التسعين من العمر، بعد أن أنقذه من الهلاك وقف إطلاق النار في 1962.
ولن تخفَى خلفية الحدث وعبرة الحديث عن القارئ الأندلسي، الذي ..”بالإشارة يفهمُ”، حسب التعبير الشعبي الجزائري.
وأعود بالقارئ إلى منتصف الخمسينيات، حيث قوِيَ لهيب الثورة الجزائرية بعد عمليات الشمال القسنطيني بقيادة الشهيد “زيغود يوسف”، وراحت فرنسا تحاول مواجهة الثورة بتجنيد عدد من الذين يُطلق عليهم “الأعيان” لِفكّ ارتباط الشعب الجزائري بجبهة التحرير الوطني، ولحرمان جيش التحرير الوطني من الحاضنة الجماهيرية.
وتمكنت فرنسا من تجنيد المحامي “علي شكال”، الذي كان نائبا لرئيس الجمعية الجزائرية بالبرلمان الفرنسي آنذاك.
وأرسلت السلطات الفرنسية شكال، بصفته البرلمانية، إلى الأمم المتحدة للدفاع عن أطروحة “الجزائر فرنسية”، وراح هناك يدّعي أن الجزائريين كلهم مع فرنسا، وأنهم يتبرؤون من الثورة، وأن المجاهدين الذين في الجبال خارجون عن القانون، يقومون بأعمال معزولة ( ألا يذكر هذا بما نعيشه الآن وبلقاءات وزير الخارجية الأمريكية بلينكين بقيادات عربية).
واتخذت الثورة قرار بتصفية علي شكال كدرس للاستعمار الفرنسي ولكل من يحتمون بالمستعمر، وكُلّف بتنفيذ العملية مناضل جزائري من شباب مدينة عنابة، كان في السابعة والعشرين من العمر.
وفي يوم الأحد 26 مايو 1957 يُنفذ الفدائي “محمد بن صدوق” عملية جريئة استهدفت العميل عند المدخل الرئيسي لملعب “كولومب” (باريس) وذلك في ختام نهائي كأس فرنسا لكرة القدم، وتمت التصفية أمام أعين الرئيس الفرنسي “روني غوتي” (الذي سيسلم الرئاسة في العام التالي للجنرال “شارل دوغول”) وأمام الوزراء المرافقين للرئيس ومحافظ الشرطة “موريس بابون” (الذي أوقف فيما بعد لتواطئه مع النازيين).
ويروي بن صدوق ما حدث قائلا ما معناه: “راقبت المنصة الرسمية ورأيت رئيس الجمهورية الفرنسية وهو يغادرها وبجانبه مخلوق بطربوش أحمر، كان هو الخائن علي شكال”.
ويضيف الفدائي: ” ركب الرئيس روني كوتي سيارته وبقي علي شكال رفقة محافظ الشرطة موريس بابون ورئيس بلدية باريس ينتظرون سياراتهم للمغادرة، وعندما اقتربوا من السيارة ضغطت على زناد المسدس بطلقة واحدة فقط، وأصيب الخائن شكال في قلبه فسقط ميتا بين يدي بابون ورئيس بلدية باريس”.
ويواصل المجاهد في سرد شهادته: “استدار موريس بابون وأمر رجال الشرطة فأنهالوا علي ضربا ”.
وعندما سئل محمد بن صدوق لماذا لم يقتل الرئيس الفرنسي روني غوتي، عندما كان بجانب شكال، كان جوابه .:”هذا الخائن اخطر على الجزائر من الرئيس الفرنسي، وجبهة التحرير الوطني كلفتني بمهمة محددة وهي قتل الخائن علي شكال لا غير”.
لماذا أستعرض هذا اليوم.؟
لمجرد التساؤل البريء: هل “ناتنياهو” أخطر على الوطن العربي ممن يدعمونه من بيننا، وهل انقرض أمثال بن صدوق من العالم ؟
* – الوقفة الرابعة:
قلت وأكرر بأن “الربيع العربي” كان ربيعا حقيقيا أجهض نتائجَه الإيجابية تحالفُ قيادات عربية مع مؤسسات أجنبية، أدركوا أن شعوبهم انتزعت مصيرها بيدها، وأن الوطن العربي يعيش انتفاضة حقيقية هي خطر على كل ما يُدبرُ له مخبر “لعبة الأمم” إذا قُدّر لها أن تؤتي أكلها.
وما زلت أقول وأكرر بأن حجم الاختراق كان وما زال أكبر مما كنا نتصوره، وأن مجالاته ممتدة في أكثر من اتجاه، وأن مساحة التواطؤ بين الداخل والخارج متسعة اتساع ضمير العديد من القيادات.
* – الوقفة الأخيرة:
أروع ما قرأته مؤخرا إجابة مناضل أممي عن الفرق بين هذا المرشح أو ذاك في أميركا، فقال:إنهما حذاءان في رِجْلي مخلوق واحد.
ومن هنا …فعلى أمة “محمد” (سابقا) أن تدرك أن “سيدي ألعن من ستي”، أو بالتعبير الجزائري “كي سيدي كي جوادو”.