نظرة في (طلعة) سيديا ول إسحاق/ باته بنت البراء
تِـفْگَـادْ أَعَــزْ اعْــرَبْ زَمُّـورْ @ وِاعْـرَبْ تِـنْحَسَّـنْ وَأَجَـمُّـــورْ@
ؤُتِـيـنِـنَــارْ ؤُبَــزُّولْ آمُـــورْ @ جَانِي سَاحِلْ عَنْدْ أَهْلْ أَكْچِي@
بَيْنْ أَغَنْچـابِيـتْ ؤُتـِنْـمُـورْ @ ؤُمُـولِي وِانْبَـطَـارْ ؤُمَـخْـچِـي@
ؤُجَانِ عَنْدْ احْسَيْ اعْدَيْجَه@ فِـاتْـنُــوبْ إِعْـلِــيَّ مِچَّـهْــچِي@
وِاعْگَبْ جَانِي عَنْدْ انْدَيْجَه@ ؤُبُوحَجْرَه وَاَوْجَفْـتْ امْبَنْچِي@
قراءة عجلى للنص تجعل المتلقي يأخذ انطباعا أوليا بأنه نص صعب المراس، جزل اللغة، حافل بأسماء الأماكن الغريبة، وحتى القافية (الجيم السودانية) غير مطردة في اللهجة الحسانية.
ربما يجعل هذا الانطباع الأولي القارئ يضرب صفحا عن النص، ويوليه ظهره دون رجعة.
غير أن النص الإبداعي الحقَّ لا يسفر عن محاسنه، ولا يجلوها للقارئ الفطن من النظرة الأولى، ولا القراءة العابرة كلا؛ فلا بد من معاودة القراءة والتلبث وئيدا حتى نستطيع كشف أسرار النص، ونتبين الأحبولة التي عمد الشاعر إلى وضعها ليخاتل المتلقي، وينقل إليه رسالته الإبداعية؛ فأحابيل الشعراء كثيرة ووحدهم الغاوون هم من يترسمون آثارهم، ويتتبعون ديارهم، ليقفوا على ما من شأنه أن يضيء النص.
ولو عمدنا إلى رصد معجمي للألفاظ، لتوهمنا أن المقصود هنا هو التغني بالأماكن التي عهد الشاعر وألف، والتي تشكل جزءا من ذاته وذكرياته وحياته.
فلا يمكن أن نتصور الذات خارجا عن إطاري المكان والزمان، وهذا ما جعل هذين المفهومين تليدين في الشعر العربي فصيحا وشعبيا، حتى لقد أصبح ذكر المكان والوقوف عليه، والاعتبار بما آل إليه، جزءا فنيا من بنية القصيدة الفصيحة الكلاسيكية: (المقدمة الطللية) وكذلك غرضا قائما بذاته في لغن الحساني: (غرض النسيب).
فالشاعر هنا ذكر أربعة عشر مكانا هي على التوالي: (زمور- تنحسن- أجمور- تينينار- بزول آمور- أغنچاييت- تنمور- مولي- انبطار- مخچي- احسيي اعديجه – انديجه – بوحجره – أوجفت).
هذا الحضور للمكان لافت وذو دلالة لا شك؛ ولو تبينا نوع المكان لوجدناه في هذه (الطلعه ينقسم إلى قسمين اثنين:
– قسم أول مرتبط بأعز شخص لدى الشاعر من أجل التعريف به؛ فهو لم يذكر اسمه ولا عشيرته وإنما نعته بصفة التفضيل (أعز)، ثم نماه إلى قبيلة وافرة العدد من قبائل موريتانيا هي (العرب) وتضم عشائر وأفخاذا شتى يصعب تحديد الشخص من خلال نسبته إليها؛ إلا أن الشاعر حدد هؤلاء العرب من خلال الأماكن التي يوجدون فيها، وتشكل عنوانهم وانتماءهم على عادة البدو، فبذكر المكان يمكنك تحديد الساكنة.
فالحبيبة هي أعز هذه القبائل التي تسكن الأماكن الخمسة المذكورة في حمر الطلعه، ولا شك أنها قبائل وافرة، والخيارات فيها كثيرة مغرية، ولكن سيديا آثر عدم التصريح، وجزم بأن المُكَنَّى عنها بصيغة التفضيل؛ هي الأثيرة لديه من بين كل هذا العدد الوفير من نساء القبائل الممتدة عبر الأماكن المذكورة:
تِـفْگَـادْ أَعَـزْ اعْـرَبْ زَمُّـورْ @@ وِاعْـرَبْ تِـنْحَسَّـنْ وَأَجَـمُّــورْ@
ؤُتِـينِـنَـارْ ؤُبَـزُّولْ آمُــــــورْ @@
أما القسم الثاني من الأمكنة فخصصه الشاعر لذكرى الحبيبة : (التِـفْگَـادْ )، وهذه الذكرى تجلت عبر الحضور الطاغي في أكثر من مكان، أي أنها زادت على الأمكنة التي من المحتمل أن تكون قبيلة المحبوبة تتنقل بينها بأمكنة أخرى؛ حل بها الشاعر ولاحقته فيها الذكرى وأرقته وأرهقته.
إن فعل المجيء (جَانِي) هو الكلمة المفتاحية في النص؛ وعليها انبنى كل المعنى فيه؛ ففعل المجيء لعب دور البطولة في النص وكان الشاعر المستهدف في كل مرة، والقسم الثاني من الأمكنة هو مسرح الحدث؛ وكل ظهور لهذا الفعل (جَانِي) يأتي بطريقة مغايرة تزيد في المعنى وتعمق دلالاته.
لقد قام النص على الصورة الاستعارية الموسعة التي رسم الشاعر لهذا المجيء (التِـفْگَـادْ)، ومعلوم أن الذكرى تفعل بالشاعر الأفاعيل!
فقد طرقه (التِـفْگَـادْ) للمرة الأولى في جهة محددة محايدة وعند ناس محددين: (جَانِي سَاحِلْ عَنْدْ أَهْلْ أَكْجِي) وكذلك في مكان حُدد موقعه المكاني وسطا بين عدة أمكنة حتى لا يضل المعاين:
بَيْـنْ أَغَـنْجَابِـيـتْ ؤُتـِنْـمُــورْ @@ ؤُمُـولِي وِانْبَـطَـارْ ؤُمَـخْـجِي@
والغريب أن هذا الطروق الأول للذكرى ساوى في عدد الأمكنة (5 أمكنة) عدد أمكنة القبائل التي فضلت الحبيبة على سائر ساكنتها.
أما العودة الثانية للذكرى فكانت أشد وطأة من الأولى؛ حيث لم يكن الشاعر يتحسبها ولا ينتظر معاودتها، بل أتته ظلما وعدوانا (اعلي مجهجي) في ظرف مكاني محدد، ولكن الظرف الزماني متعدد:
(ؤُجَـانِي عَنْدْ احْسَيْ اعْـدَيْجَه @@ فِـاتْـنُـــوبْ إِعْـلِــيَّ مِجَّـهْــجِي@)؛ وكل ذلك لتهيج هذه الذكرى الأشجان من جديد، وتذكي الشوق القديم.
وياتي الطروق الثالث المشهود موزعا عبر أمكنة ثلاثة:
وِاعْگَـبْ جَانِي عَنْـدْ انْـدَيْجَه @@ ؤُبُوحَجْرَه وَاوْجَفْـتْ امْـبَـنْجِي@
وهذه المرة كان المجيئ نارا على علم، فالشوق أعلن نفسه بأقوى أنواع الإشهار والتأثير، مما يضمن أن يكون الجمهور شاهدا عدلا عليه، ف(بنجه) مكان عام للتجمع، والصوت الصاخب الذي يسترعي انتباه البعيد بله القريب:
واعكب جاني عند انديجه@ ؤبوحجره ووجفت امبنجي@.
يمكن أن نقول إن (التِـفْگَـادْ) ضيف نفسه ثلاث مرات لدى الشاعر حتى يستكمل العهدة، ويستكمل فترة الضيافة اللازمة؛ وليؤكد لنا الشاعر من خلال ذلك، رغم تجواله بين الأمكنة، وتقادم الزمن على هذه الذكرى، أن لا سبيل إلى التناسي، ولا مناص من هذا الحب المُرِبِّ