القصة:
تحولت اللوحة الى كائن ينبض بالحياة.. يتحدث.. يوزع البسمات، ويهذي بكلام الصوفيين…
قال عصفور أزرق يقف غير بعيد: ” حلت فيها روح رابعة العدوية بعد أن عبدها اليونان ربة للجمال، واستلهم منها دافينشي ظلال جوكوندته، ومنها صيغت أسماء القديسات”.
لم يكن نائما ولا واقعا تحت تأثير مخدر، لكنه وجد نفسه يرقص في السماء السابعة ثملا بخمرة ابن الفارض وشطحات الحلاج، ووجد أبي مدين الغوث…
عاد الى الارض تطارده الهواتف:
“انت كائن من طين”.
قال :
“نعم… وتذكرت أيضا زلزالا وقصيدة شعر، وما يشبه الجنون”…
امتطى صوت ضحكة ومضى يعبر الزمن ينفخ نايه للحب ويندب الحلاج…
القراءة:
اللوحة أصلا هی اثر لأي موجود طبيعي او بشري ؛ يجسده عمل فني إبداعي ؛ هو فن الرسم الذي يندرج ضمن الفن التشكيلي ..
إلا ن اللوحة هذه المرة عمل انثوي، نال شغف البطل لارتباطه بقصة حب عاتية تجلت على لسان عصفور ازرق :
البطل هو العصفور الازرق ” قال عصفور أزرق يقف غير بعيد “
البطلة هي اللوحة أنثى جمعت بين الجمال والكمال المكتسب …
ياتي البطل متجليا في العصفور لما له من إيحاء بالحب والجمال والخلود كما ان له رمزية لدى بعض الشعوب ا توحي بالسرور بعد موجات الاحزان !
و في نفس الوقت ياتي تجلي البطل عصفورا هروبا من سطوة الأنا الأعلى ، وذلك ليتمكن البطل من كسب حرية افتقدها يوما ؛ حرية غابت فلم ينل المحب إلا وجع الذكرى
لكن تجليه كعصفور مكنه من نيل حريته في إغداق الأوصاف علي محبوبته بالقدر الذي يختزل فيها كمال الدنيا ومكنون الوجود !
( قال عصفور أزرق يقف غير بعيد: ” حلت فيها روح رابعة العدوية بعد أن عبدها اليونان ربة للجمال، واستلهم منها دافينشي ظلال جوكوندته، ومنها صيغت أسماء القديسات” )
ومع انه قلما تاتي خاصية المكتسبات المعرفية والعقلية مقترنة بالجمال عند العرب فقد حصل ذلك !
ففي العصر الاموي ارتبط الجمال بالشجاعة والعلم بشان سكينة بنت الحسين ابن علي وفي العصر العباسي برزت رابعة العدوية مصدر إلهام البطل في هذه القصة ..
يظل البطل في تجليه عصفورا يرقص في السماء السابعة يناجي حبه باسلوب ابن الفارض حتي يصل إلي النهاية المأساوية للحلاج حينها يشعربالضعف والهزيمة لانه عاد إلي الارض بوصفه آدميا من طين ويبدا الصراع الداخلي بين خصوم يتباعدون كالأرض والسماء :
عصفور حر يرقص في السماء السابعة لانه عصفور
ممتهن لانه آدمي من طين مكبل بقيود العقل التي تفرضها الانا الاعلى .
وهنا تاتي الرجولة لتُحقر من شأن نفسها مقابل الانوثة لانها تجعل الانوثة في تحليات قدسية بينما تجعل من الذكورية ذلك التجلي العاجز المستكين نقمة علي جهد ضاع في حين تاتي الانوثة ( اللوحة )في تجليات قدسية اربع :
التجلي الأول : روح رابعة العدوية ” حلت فيها روح رابعة العدوية ” وهي التي اشتهرت في العصر الأموي بالشعر والتدين ، وكتب عنها كثيرون منهم ابن الجوزية وسفيان الثوري
التجلي الثاني : إلهة الجمال عند اليونان
أفروديت Aphrodite ) وهي التي أوردها البطل علي انها معبودة اليونان ربة للجمال، ” وهنا تنكشف اسرار اللوحة شيئا فشيئا لان القصة القصييرة جدا بحاجة إلي الإبهام ولذلك يعجز البطل العصفور عن السيطرة علي مشاعره ، كما يعجز اي عصفور عن تحمل العناء والإبهام ، لذلك يتحرر البطل من الغوص في الحضارة والثقافة العالمة وإن كانت من مصادر إلهامه ليغوص في اعماق المعبودات الانثوية من أفروديتAphrodite آلهة الجمال عند اليونان إلى الموناليزا في لوحة الفنان الإيطالي دافينشي ..
التجلي الثالث : في هذا التجلي تاتي لوحة الموناليزا بكل ثقلها الإيحائي في وحي الجمال :
والتي منها استلهم دافينشي ظلال جوكوندته”
اما وقد قال عنها الفنان الإيطالي الذي رسمها خلال أربعة اعوام :
” إن جميع الحواس لتتمنى أن تلتهم صاحبة هذه اللوحة إلتهاما ، وخاصة هذا الفم الرشيق الذي يشتهي كل جسد أن يكون له مثله ‘
اما التجلي الرابع : فهو صياغة اسماء القديسات من اسمها …
وبالتجليات الأربع تتقدس المحبوبة في تصور العاشق الذي استمد حريته في العشق من كونه عصفورا لا آدميا مما يشكل ثورة علي الانا والانا الاعلى معا
وبعد سكب تلك التجليات تستشعر الذكورية ضعفها وعجزها أمام طغيان سلطان الانوثة فيغدو البطل بعد ان وصل إلى السماء السابعة عصفورا ؛ ما هو إلا كائن من طين فاقد لحريته مستكينا لإرادة الانا الاعلي سفليا كالطين تطارده لعنات اهل الارض (عاد الى الأرض تطارده الهواتف:
“انت كائن من طين”.)
ومن ثم تتغير العلاقة الإسنادية من ضمير الغائب إلي ضمير المتكلم بعد عودته إلى الأرض (نعم… وتذكرت أيضا زلزالا وقصيدة شعر، وما يشبه الجنون”…)
ثم يتغير جنسه ! فبعد ان كان من جنس الطيور محلقا في السماء السابعة ؛ نزل من السماء وهو آدمي مما ينسجم وفقده للحرية ورضوخه لعذاب المحبين ، عندها يلجا لي فسحة الذكري ( وتذكرت أيضا زلزالا وقصيدة شعر، )
ذكري جعلته يسافر عبر الزمن ..
إنه سفر ! وما من آليات للوصول سوى أنه (امتطى صوت ضحكة ومضى يعبر الزمن ينفخ نايه للحب ويندب الحلاج… ) هنا يكتمل الياس وتعود القصة إلي التشهير بالانوثة التي تغيب عن كل تلك المشاهد المؤلمة التي عاشها البطل ..
والتي جعلته يعيش مسافرا داخل قفص وجع الذكري متجليا في أحزان الناي ومصبر الحلاج الذي تم تقطيع اطرافه ثم قتل وهو راض حين اتهم بالحلولية رغم إعلانه لحب الذات الإلهية
عندئذ يستسلم لسلطان عاشق مهزوم يلهث خلف الذكرى التي لاتسعفه إلا بمجرد صوت ضحكة يمتطيها ليسافر عبر الزمن ليعيش حبه عن بعد !
هنا ايضا ياتي التصبر بالشعر مقرونا بندرة اللقاء كالزلزال في الندرة وقوة التاثير (نعم… وتذكرت أيضا زلزالا وقصيدة شعر، وما يشبه الجنون”…
امتطى صوت ضحكة ومضى يعبر الزمن ينفخ نايه للحب ويندب الحلاج…)
ليس جديدا ان يعيش الاديب العربي حبا عن بعد
ولكن من النادر ان تكون الاعمال الإبداعية
وقودا لسكينة الحب كما حدث في هذه القصة و قبلها مع نزار قباني فی قصيدته اكتبي لي
حيث يوثق صلته بسطور مراسلته حين يصف قراءته بالامتصاص من شدة صلة اهداب عيونه بما تكتب :
وتمتصُّ أهدابي انحناءاتِ ريشةٍ
نسائيةِ الرِعْشَات ناعمةِ النجوى
لَتُفْرِحُني تلك الوريقاتُ حُبِّرَتْ
كما تُفْرِحُ الطفلَ الألاعيبُ والحلوى
وما كان يأتي الصبرُ لولا صحائفٌ
تُسلَّمُ لي سرّاً فَتُلْهمُني السلوى
أحِنُّ إلى الخَطِّ المليسِ ورُقْعَةٍ
تطايَرُ كالنجماتِ أحرُفها النشوى
ذفهل الحب عن بعد هو قدر المحبين العرب
وهل قدر هم أن تكون النهاية مأساوية كنهاية الحلاج ؟ وهل
(لحب في الارض بعض من تخيلنا
لولم نجده عليها لاخترعناه ) ؟