رحلة عظيمة للكلمات القادمة من اللغة العربية إلى الفرنسية عبر المكان والزمان/ محمد السالك ابراهيم
من يدري بأن اللغة العربية تأتي في المرتبة الثالثة بعد الإنجليزية والإيطالية من حيث عدد مفرداتها التي اندمجت في اللغة الفرنسية؟ من فنجان القهوة إلى البرتقال، من التنورة القطنية إلى صدرية الساتان، مرورا بالجبر والكيمياء والخوارزميات، وصولا إلى الأرقام؛ أما في مجال الحيوانات والنباتات والفنون والعطور والمجوهرات والنقل أو الحرب، فإن الناطقين بالفرنسية يستخدمون يوميا كلمات كثيرة مستعارة من العربية.
في هذا الكتاب المتميز » أسلافنا العرب: ما الذي تدين لهم به لغتنا « “Nos ancêtres les arabes : ce que notre langue leur doit”, يمنحنا جان بروفوست Jean Pruvost فرصة الإنغماس في الرحلة العظيمة للكلمات القادمة من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية عبر المكان والزمان.
ينخرط جان بروفوست -وهو مؤرخ ومؤلف معاجم، وأستاذ جامعي فرنسي، في استكشاف ممتع للغة العربية التي انتقلت إلى اللغة الفرنسية بفعل التاريخ والجغرافيا والتفاعل الحضاري عبر بوابات عديدة ومتنوعة سواء من خلال الفتوحات العربية والتجارة في البحر الأبيض المتوسط، أو من خلال الحروب الصليبية في العصور القديمة، أو حديثا من خلال هجرات المغاربيين إلى فرنسا أو شيوع موسيقى الراي و الراب.
في هذا الكتاب الشيق، يسرد المؤلف الكثير من المجالات التي تتوارد فيها الكلمات العربية التي يستخدمها الناطقون بالفرنسية، سواء كانت نباتات، أوحيوانات، أوعطور أومجوهرات، أو ألوان، أو موسيقى، أوآداب ، أوفنون ، أوأديان، إلخ. في مجال الطعام على سبيل المثال، تتصدر السجل مفردات مثل البطيخ، والخرشوف، والباذنجان، والسبانخ مع الطرخون، والموسلين، وعصير الليمون، لتنتهي بالقهوة، والسكر، والكحول.من طرائف هذا الكتاب الذي صدر سنة 2017 أن عنوانه يحاكي عنوان أشهر كتاب مدرسي فرنسي بعنوان »أسلافنا الغال« «Nos ancêtres les Gaulois» من تأليف إرنست لافيس E. Lavisse. كان ذلك الكتاب الذي كان مخصصًا لتدريس تاريخ فرنسا في المدارس الإبتدائية في بداية القرن الماضي. وقد بالغ التربويون الفرنسيون آنذاك –إعجابا منهم بالكتاب- ففرضوا تدريسه في المستعمرات الفرنسية من أجل ربط شعوبها ثقافيا بالتاريخ الرسمي لفرنسا باعتبار أن سكانها منحدرين عرقيا من بلاد الغال.
لكن المفارقة الطريفة، هي أن إرنست لافيس E. Lavisse مؤلف “أسلافنا الغال” قد اعترف فيه صراحة بأن » أسلافنا الغال كانوا برابرة، أناسا متوحشين لا يكتبون إلا قليلا؛ وبدون الرومان والحضارة العربية التي روت كل العصور الوسطى، كان عصر النهضة سيتأخر كثيرا« لولا هذين الرافدين.أما الملاحظة الطريفة الأخرى بخصوص الغال فهي تتعلق بقلة ما بقي من لغتهم.
ويعترف إرنست لافيس E. Lavisse بأنه “رغم العلاقة الحميمية التي أنشأناها مع أسلافنا الغاليين حيث يتمتعون اليوم بصورة دافئة وقريبة في المخيال الجماعي، إلّا أن لغتهم تكاد تكون غير معروفة لنا: وبالكاد قاومت أكثر من مائة كلمة من لغتهم الإستعمار الروماني”.لكن ماذا عن العرب؟ يجيب جان بروفوست نقلا عن إرنست لافيس E. Lavisse حيث يقول في فصل بعنوان العرب والحضارة العربية: “الحضارة العربية (…) لطالما كانت متفوقة على حضارة الغرب.
وقد تعرف الغربيون على الحضارة العربية أولاً في إسبانيا ثم في الشرق نفسه خلال الحروب الصليبية. وقد ساهم النقل الذي قاموا به من الحضارة العربية في إيقاظ الحضارة الأوروبية من سباتها ولو ببطء”.في هذا الكتاب، يتتبع المؤلف جان بروفوست مسارات عديدة تاريخية ولغوية ومعجمية موضحا أن تأثير اللغة الإيطالية على اللغة الفرنسية بلغ أوجه في القرن السادس عشر خلال عصر النهضة. أما الإنجليزية فإن تأثيرها على اللغة الفرنسية قد بدأ في القرن الثامن عشر، واستمر في القرن التاسع عشر، ليصبح قوياً للغاية في القرن العشرين، خاصة بسبب الحربين العالميتين. لكن اللغة الوحيدة التي بقيت تغذي اللغة الفرنسية منذ القرن التاسع الميلادي حتى اليوم هي اللغة العربية.