تفضيل الأولياء على العلماء/ لمرابط حبيب
سئل ابن رشد الجد الفقيه عن قول الإمام أبي حامد الغزالي في كتابه الإحياء لما ذكر معرفة الله سبحانه والعلم به وقال إن الرتبة العليا في ذلك للأنبياء ثم الأولياء ثم العارفين ثم العلماء الراسخين ثم الصالحين فقدم الأولياء على العلماء، وفضلهم عليهم· وقال القشيري في أول رسالته: أما بعد فقد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه وفضلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه· فهل هذا كقول أبي حامد؟ وهل المذهب صحيح أم لا؟ فقد قال بعض الناس لا يفضل الولي على العالم، لأن تفضيل الشخص على الآخر إنما يرفع درجته عليه لكثرة ثوابه المرتب على عمله فلا فضل إلا بتفاوت الأعمال·
وقد ثبت أن العلم أفضل من العمل لأنه متعد، وخير العمل قاصر، والمتعدي خير من القاصر فثوابه أكثر وصاحبه أفضل·فأجاب: أما تفضيل العارفين بالله على العارفين بأحكام الله فقول الأستاذ وأبي حامد فيه متفق، لا يشك عاقل أن العارفين بما يجب لله من أوصاف الجلال ونعوت الكمال، وبما يستحيل عليه من العيب والنقصان أفضل من العارفين بالأحكام، بل العارفون بالله أفضل من أهل الفروع والأصول، لأن العلم يشرف بشرف المعلوم وبثمراته· فالعلم بالله وصفاته أشرف من العلم بكل معلوم من جهة أن متعلقه أشرف المعلومات وأكملها، وأن ثماره أفضل الثمار، فإن معرفة كل صفة من الصفات توجب حالا عليه، وينشأ من تلك الحال ملابسة أخلاق سنية، ومجانبة أخلاق دنية، فمن عرف سعة الرحمة أثمرت معرفته سعة الرجاء ومن عرف شدة النقمة أثمرت معرفته شدة الخوف، وأثمر الخوف الكف عن الإثم والفسق والعصيان مع البكاء والأحزان والورع وحسن الانقياد والإذعان·
ومن عرف أن جميع النعمة منه أحبه، وأثمرت المحبة آثارها المعروفة، وكذلك من عرفه بالعظمة والجلال هابه وعامله معاملة التائبين المعظمين مع الانقياد والتذلل وغيرهما·فهذه بعض ثمار معرفة الصفات· ولا شك أن معرفة الأحكام لا تورث شيئا من هذه الأحوال، ولا من هذه الأقوال والأعمال، ويدل على ذلك الوقوع، فإن الفسق فاش في كثير من علماء الأحكام بل أكثرهم مجانبون للطاعة والاستقامة، بل وقد اشتغل كثير منهم بأقوال الفلاسفة في النبوة والإلهيات، ومنهم من خرج عن الدين، ومنهم من شك، فتارة يترجح عنده الصحة، وتارة يصح عنده البطلان، فهم في ريبهم يترددون· والفرق بين المتكلمين والأصوليين، وبين العارفين أن المتكلم قد تعرف عنه علومه بالذات والصفات في أكثر الأوقات فلا تدوم له تلك الأحوال، ولو دامت لكان من العارفين، لأنه شاركهم في العرفان الموجب للأحوال الموجبة للاستقامة فكيف يساوي بين العارفين والفقهاء؟·والعارفون أفضل الخلق وأتقاهم لله سبحانه والله سبحانه يقول: ”إن أكرمكم عند الله أتقاكم”·ومدح تعالى في كتابه المتقين أكثر من مدحه للعالمين· وأما قوله تعالى: ”إنما يخشى الله من عباده العلماء”، فإنما أراد العارفين به وبصفاته وأفعاله دون العارفين بأحكامه، ولا يجوز حمل ذلك على علماء الأحكام، لأن الغالب عليهم عدم الخشية وخبر الله تعالى صدق، فلا يحمل إلا على من عرفه وخشيه، وقد روي هذا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وهو ترجمان القرآن·