الدين والثورة: من الوحي إلى التحرير/ قاسم صالح

منذ لحظة نزول الوحي على محمد بن عبد الله في غار حراء، لم يكن الدين انعزالا عن واقع الناس، ولا مجرد طقوس تعبدية تؤدى في زوايا مغلقة، بل كان ثورة على الجهل، وصرخة ضد الظلم، وبشارة بتحرر الإنسان. لقد جاء الإسلام في لحظة تاريخية بلغ فيها الاستبداد مداه، والطبقية فحشت، والمرأة وئدت، والعبيد بيعوا كالدواب. فجاءت الكلمة الأولى: (اقرأ)، لا كأمرٍ معرفي فقط، بل كأداة تحريض على النظر، وعلى الوعي، وعلى الرفض. إن الناصرية، بوصفها مشروعا قوميا تحرريا، لم تتعامل مع الدين بوصفه خصما للثورة، بل بوصفه حاملا أصيلا لها. فالدين عند جمال عبد الناصر لم يكن أداة تبرير للاستكانة، بل ذخيرة روحية في معركة التحرر الوطني. في خطبه ومحاضراته، كان دائم التذكير بأن الإسلام دين كرامة، لا عبودية؛ دين تحرير، لا خنوع؛ دين شعب، لا دين سلطة.
وقد كتب التاريخ أن جمال عبد الناصر، حين أمم قناة السويس، لم يستند إلى تأويلات فقهية تحرم (الخروج على الملك)، بل استند إلى فقه الواقع وحق الأمة. وحين تصدى للعدوان الثلاثي، لم ينتظر فتوى من شيوخ البلاط، بل صنع من كل شارع منبرا، ومن كل عامل جنديا. كانت الثورة عنده صلاة من نوع آخر، و(الله أكبر) هتافا يعلو في المصانع والحقول، لا فقط في المحاريب. بين إسلام محمد وإسلام المصالح الفارق الجوهري بين الدين كثورة، والدين كأداة قمع، هو في من يتحدث باسمه، وفي أي سياق يستخدم. الإسلام ، الذي ألغى امتياز قريش، وأخضع الحاكم للمساءلة، وفتح باب (الشورى)، ليس هو ذاته إسلام السلاطين الذين جعلوا من (ولي الأمر) صنما جديدا، ومن الطاعة العمياء عقيدة.
لقد بنيت على مر القرون جدران عالية تفصل الدين عن الثورة. صورت بعض المدارس الدينية الخروج على الظلم كفرا، ورفعت شعار (اصبروا حتى تلقوا الله)، في وجه شعوب مقهورة مسحوقة. وتمّ تشويه فكرة الجهاد الحقيقي، فصار يُعلن على الشعوب لا على الاستعمار، وعلى المقهور لا على القاهر.
بين الثورة والتدين: من التوازي إلى الاندماج حين ننظر في المشهد العربي المعاصر، نرى كيف يُستخدم الدين لتجميل الاستبداد، في حين أن النصوص الدينية الأصيلة كلها تؤكد أن السكوت عن الظلم هو عين الخيانة. المشكلة ليست في الدين، بل في من يحتكره، ويفسره وفق مقاس السلطة. الوعي الناصري يقدم نموجا بديلا: ثائرا يصلي لا لينعزل، بل ليقوى؛ ويقرأ القرآن لا ليتلوه على الأموات، بل ليستنطقه في معركة الحياة. هذا هو الإسلام الحي، الذي يدعو إلى تحرير الإنسان من الحاجة، ومن الجهل، ومن الخوف. الثورة حين تسرق باسم الله كم من ثورة سرقت لأنها لم تسبقها موجة وعي ديني تحرري؟ كم من انتفاضة بعثرت حين تسلل إليها الخطاب الطائفي؟ الدين حين لا يطهر من الطائفية، يصبح أداة تمزيق. وعندما يركز على (الفتنة النائمة) بدل (الاستبداد القائم)، يفقد قيمته التحررية، ويصير حليفا للطغيان. لا ثورة بلا روح، ولا دين بلا وعي إنّ مشروعنا النهضوي العربي بحاجة إلى دين محرر لا مخدر؛ إلى أئمة يصعدون المنابر ليقولوا للسلطان كفى، لا ليباركوا كل قراراته.
نحن بحاجة إلى فهم جديد للدين، يعيد له مكانته بوصفه سندًا للثائر، لا سوطًا على ظهره. فالدين، كما الثورة، لا يحيا في الزنازين، ولا تحت المآذن المزخرفة، بل في ضمير الإنسان حين يرفض الظلم، ويصرخ من قلبه: (الله أكبر… على كل من طغى وتجبر).